كربلاء مشعل كشف الزيف
موقع قادتنا
منذ 8 سنوات
وهكذا أصبحت ملحمة كربلاء رمز المواجهة بين الحنفية البيضاء والشرك المتلصص، بين الحق الخالص الصريح والباطل المدنس المزخرف، بين الشجاعة
والبطولة والتحدي وبين التذبذب والانطواء والتبرير.
وأصبح الإمام الحسين لواء منشوراً لكل من يريد مقاومة الحكام المتسترين بالدين، وتحريف العلماء الخونة للدين وسكوت المتظاهرين بالدين وضد الدين المزيف الذي أضحى سلاحاً فتاكاً على الدين الحق، وضد المتظاهرين بالدين الذين تظاهروا ضد الخط الإيماني الصادق.
وهكذا أضاء أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) على امتداد التاريخ درب المؤمنين المستضعفين الذي تآمر ضدهم ثالوث النفاق والدجل والجبن، هؤلاء المحرومين الذي تظاهر ضدهم المهووسون بالسلطة ووعاظ السلاطين والمترفون مصاصو دماء الفقراء.
وأية راية حق حاربت من أجل الله حملت شعار (يا لثارات الحسين)، وأي تجمع صالح قرر التحدي وضع نصب عينيه دروس كربلاء، وأي رجل عقد العزم على أن يكون فداء لدينه كان مثاله الأسمى السبط الشهيد..
وتبقى حاجتنا إلى مشعل سيد الشهداء ما دمنا نواجه نفاقاً أموياً، ودجلاً شريحياً، وخيانة كالتي كانت عند أهل الكوفة.. وأنى يكون لنا يوم نتخلص من هذا الثالوث الخبيث؟
كلا؛ ما دامت الدنيا باقية فإن فتن الشيطان ووساوسه قائمة، وليس بالضرورة أن يكون المنافق أموياً سافراً، أو شريحاً قاضياً عنده كما وعاظ السلاطين، أو جبناء متظاهرين بالخيانة..
كلا؛ ليس بالضرورة أن يكون كذلك، فقد يكون المنافق متظاهراً بحب السبط الشهيد، والدجال متحدثاً باسمه، والجبان ينضوي تحت لوائه.. أو لم يرق أحدهم منبر الحسين فقال: مالنا والدخول بين السلاطين، ويحرم تعاطي السياسة، ولم يفكر أن المنبر الذي اتخذه وسيلة معاشه لم يقم إلا على دماء السبط الشهيد (عليه السلام)، وأن الإمام الحسين أعلن بكل صراحة أن مثله لا يبايع مثل يزيد؟
وإن الشيطان الذي حرف كتاب الله المبين، وفسر سيرة سيد المرسلين وحكم باسم كتاب الله وتحت شعار خليفة رسول الله بالجور والعدوان، إنه قادر أيضاً على تحريف نهج الحسين، وتفسير واقعة كربلاء بما يخدم مصالحه ويتماشى وأهوائه النفسانية.
النهضة الحسينية
من هنا كان على الذين وعوا حكمة النهضة الحسينية، وعقدوا العزم على أن يعيشوا نهج سيد الشهداء رغم الصعاب، والذين تساموا إلى حيث جوهر الإسلام وروح الإيمان وعصارة تاريخ الأنبياء.. إلى حيث الصراع ضد الجبت والطاغوت، على هؤلاء أن لا يدعوا راية السبط الشهيد تسرق من قبل الدجالين والمنافقين والمترفين، فإذا بهم يحاربون نهج الحسين باسم الحسين كما حارب بنو أمية نهج رسول الله باسم رسول الله، ونهج كتاب الله باسم كتاب الله.
فحرام أن نعيش دهراً على شاطئ الحسين (عليه السلام) محرومين من ماء الحياة، من العزم الحسيني، من الشجاعة الحسينية، من العطاء الحسيني، من الكرم والإيثار، من المواجهة والتحدي.. من كل تلك المعطيات التي زخرت بها ملحمة كربلاء الثائرة.
إن الحسين كما جاء في حديث جده المصطفى (صلى اله عليه وآله) مصباح الهدى وسفينة النجاة [1]، وأنه من الرسول والرسول منه [2]، إنه إمام المسلمين وحجة الله وهو أعظم من مجرد تراجيديا كما أن كربلاء أسمى من مجرد فلكلور، إنه وريث الأنبياء وترجمان الأوصياء وقدوة الأتقياء، إنه مدرسة التوحيد.
أو لم تقرأ دعاءه في يوم عرفة؟ إن هذا نهج السبط الشهيد فهل يجوز اختصاره في بضعة كلمات تراجيديا؟
إنه يمثل الإسلام، أو ليس هو إمام الأمة وحجة الله؟
ومن هنا يجدر بنا أن نتخذه إماماً في كل مناهجه وشرائعه.
عرفان الرب
أولاً: يوم انصهر في بوتقة التوحيد وعرفان الرب وزكاة القلب، والتبتل في الليل، وكان حاله تأويلاً صادقاً لقوله سبحانه:) كَانُوا قَلِيلاً مِنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (. (الذاريات/17)
وما دعاؤه في يوم عرفة إلا قبساً من نور توحيده، ووهجاً من شوقه إلى رضوان ربه، وفيضاً من حكمته الإلهية.
ألا تراه واقفاً في صحراء عرفات تحت شمس الظهيرة اللاهبة، وقد رفع كفيه الضارعتين إلى ربه، وجرت دموعه الدافئة على خده، وهو يخاطب ربه بكل عفوية وانسياب ويقول: أنت كهفي حين تعييني المذاهب في سعتها، وتضيق بي الأرض برحبها، ولولا رحمتك لكنت من الهالكين، وأنت مقيل عثرتي، ولولا سترك إياي لكنت من المقبوحين وأنت مؤيدي بالنصر على أعدائي، ولولا نصرك إياي لكنت من المغلوبين. يا من خص نفسه بالسمو والرفعة، فأولياؤه بعزه يتعززون، يا من جعلت له الملوك نير المذلة على أعناقهم فهم من سطواته خائفون، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وغيب ما تأتي به الأزمنة والدهور، يا من لا يعلم كيف هو إلا هو، يا من لا يعلم ما هو إلا هو [3].
هذا القلب الكبير الذي استقبل نفحات الرب في عرفات الحجاز.. هو القلب الذي استقبل تحديات الموت في يوم عاشوراء بتلك النفحات عندما ازدلف عليه أكثر من ثلاثين ألفاً من أعدائه يريدون قتله فتوجه إلى ربه ضارعاً وقال: اللهم أنت متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دعيت، محيط بما خلفت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادر على ما أردت، ومدرك ما طلبت، وشكور إذا شكرت، وذكور إذا ذكرت، أدعوك محتاجاً وأرغب إليك فقيراً وأفزع إليك خائفاً وأبكي مكروباً واستعين بك ضعيفاً وأتوكل عليك كافياً، أحكم بيننا وبين قومنا [4].
هذا هو الإمام الحسين (عليه السلام) علينا أن نسمو إلى درجة اتباعه في زهده وتقواه، في تبتله وعبادته، في سلوكه وخلقه
سلسبيل الحب
ثانياً: ويوم نشأ بسلسبيل حب الله والرسول وعترته فكانت نفسه طاهرة من أدران الشرك ووساوس الشك، وحوافز الشر وغل الحسد والحقد والعصبيات المادية، وحين نقف على ضريحه المبارك نترنم أشهد أنك طهر طاهر من طهر طاهر، طهرتَ وطهرت بك البلاد، وطهرت أرض أنت بها وطهر حرمك [5].
الطاعة سبيل اليقين
ثالثاً: ويوم وقف بعزم صادق ونية خالصة إلى جانب أمه الصديقة الزهراء في معركة فدك، وإلى جانب والده الإمام علي (عليه السلام) في يوم الجمل وفي صفين والنهروان، وإلى جانب أخيه الإمام الحسن عليه السلام في حربه وسلمه.
وهكذا كانت طاعته لقيادته الإلهية خالصة من أية شائبة.. ذاب فيها كما تذوب قطرة ماء زلال في بحر فرات.
ونحن -إن نتبعه- نروض هوى النفس في ذواتنا لنصبح جزء من تيار التحرك لا نريد لأنفسنا جزاء ولا شكوراً.
وهكذا نقرأ في زيارته: وأطعت الله ورسوله حتى أتاك اليقين [6].
وهكذا الطاعة سبيل اليقين، ومن يرفض الطاعة بمعاذير يلقيها إليه الشيطان يصبح ضحية الوساوس طوال حياته.
نهج الحياة
رابعاً: وأخيراً نتبعه يوم توج تلك الحياة الربانية بشهادته لتكون نهج حياة.
ويوم شهادته كان السبط مثلاً أعلى لكل التضحيات وحجة بالغة علينا فيها.
لقد قدم في يوم واحد كلما يمكن أن يقدمه إنسان في سبيل ربه، كما ضرب أنصاره الكرام أروع الأمثلة في الإخلاص والإيثار. وهكذا كان الإمام حجة بالغة على كل متقاعس عن الجهاد، متخاذل خنوع.
إنهم يتقاعسون عن الجهاد حفاظاً على أموالهم ودورهم وضياعهم كما خشي عمر بن سعد وخرج بذلك لقتال الإمام الحسين بكربلاء.
أو لم يكن للإمام ضياع ودور وأموال فتركها لله عندما قرر القيام ضد طاغية زمانه؟!
ويتقاعس البعض عن الجهاد خوفاً على سمعته أن تنالها أجهزة التضليل الحكومية!!
أو لم يكن سيد الشهداء قد تعرض لذلك التشويه فقالوا عنه: إنه قتل بسيف جده، ونشروا في عرض البلاد وطولها إنه خارجي، وكانت مئات الألوف من المنابر التي أقامها النبي للدعوة إلى الله، تبث الزيغ والتبرير، والتحريض على المجاهدين الأوفياء لدين الله، وضد أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) بالذات؟
وينكفئ البعض عن واجبه الشرعي لأنه يخشى على عائلته وأسرته أن تتضرر في زحمة الصراع السياسي.
بالله عليكم أي أسرة أشرف من أسرة النبي (صلى اله عليه وآله)، وأي أهل بيت أعظم من أهل بيت الوحي، وقد حملهم معه سيد الشهداء إلى كربلاء ليكونوا معه على تلك المجزرة الرهيبة، ثم دعاة إلى القيام ضد بني أمية، وقد تعرضت لكل ألوان البلاء وأشدها إساءة حتى قتلوا واسروا طافوا بهم البلاد، يتصفح وجوههم أهل المنازل والمناهل، وهم حرم رسول الله، ومهابط وحي الله، ومعادن حكمته.
وبعض الناس يزعمون أن القيادة ينبغي أن تكون محمية بعيدة عن الخطر.. وأي قائد أعظم من حجة الله وسبط الرسول وكهف المحرومين أبي عبد الله (عليه السلام)، وها هو يقدم نفسه للفداء قرباناً إلى ربه ودفاعاً عن الرسالة..
وهكذا كان ولا يزال السبط الشهيد شاهداً خالداً علينا -نحن المسلمين- ضد كل تبرير وعذر وتقاعس وانكفاء.
واليوم حيث يتعرض خط الرسالة للتشويه من قبل أبواق الكفر والنفاق، ما أحوجنا إلى الإمام الحسين (عليه السلام) ونهجه وسيرته وشهادته الدائمة على العصور.
وبصراحة؛ إن من يريد العزة والكرامة والاستقلال والرقي لابد أن يعد نفسه ومجتمعه إعداداً مناسباً، والنهج الحسيني هو الإعداد المناسب لكل تلك التطلعات. علينا اليوم أن ننفتح على هذه النفحة السماوية التي تفيض بها ملحمة عاشوراء.
تعالوا نفكر جدياً وجذرياً كيف نبدأ الانعطافة الكبرى في حياة أمتنا؟ ألا يكفي الذل والصغار، ألا يكفي التشريد والتشرذم، ألا تكفي الهزائم والويلات، ألا يكفي هتك الأعراض وقتل الأطفال و.. و..؟
تعالوا نبني ذلك التجمع الناهض الذي يحتمي بظل الإسلام الحنيف والنهج الحسيني الثائر ضد فتن الجاهلية وبغي الاستكبار وقيد الجبارين ومكر الطامعين.
أجل إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة.. تعالوا نضيء جنبات حياتنا المظلمة بهذا المصباح الإلهي.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - عيون أخبار الرضا للصدوق، ج2، ص62.
[2] - قال رسول اللهf: حسين مني وأنا من حسين كامل الزيارات لابن قولويه، ص116.
[3] - مفاتيح الجنان، دعاء عرفة.
[4] - مفاتيح الجنان، أعمال اليوم الثالث من شعبان.
[5] - كامل الزيارات لابن قولويه، ص360، باب79، زيارات الحسين بن علي عليهما السلام.
[6] - مفاتيح الجنان، زيارة الإمام الحسين g، الزيارة السابعة.
التعلیقات