علائم الظهور
السيّد أحمد الإشكوري
منذ 11 سنةمصطلح العلامة :
ورد مصطلح ( العلامة ) في الدين في موارد شتّى ، نذكر بعضها لا على سبيل الحصر :
1 ـ علامة مسجّلة في الكتب السماوية ، كالتوراة ، والإنجيل ، تبيّن صفة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وتسمّى بالبشائر ، قال تعالى : ( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) ( الصف : ٦ ).
فقد ورد في تفسير القمي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى :
( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ) ( البقرة : ١٤٦ ) : « لأنَّ الله عزّ وجلّ قد أنزل عليهم في التوراة والزبور والإنجيل صفة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصفة أصحابه ... » (1).
وقد جاء في ( الكافي ) (2) عن الصادق عليه السلام : « فلمَّا أن بعث الله عزّ وجلّ المسيح عليه السلام قال المسيح لهم : إنَّه سوف يأتي من بعدي نبيّ اسمه أحمد من ولد إسماعيل عليه السلام يجيء بتصديقي وتصديقكم ، وعذري وعذركم ».
وعن الباقر عليه السلام : « فلم تزل الأنبياء تبشّر بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم حتَّى بعث الله تبارك وتعالى المسيح عيسى بن مريم فبشَّر بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وذلك قوله تعالى : ( يَجِدُونَهُ ) يعني اليهود والنصارى ( مَكْتُوبًا ) يعني صفة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ( عِندَهُمْ ) ( الأعراف : ١٥٧ ) يعني في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ... » (3) ، والحديث طويل ، ومنقول بمصادر كثيرة ، وهو نافع ، وقد نقلنا منه موضع الحاجة. وقد خاطب القرآن أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين عصوا الرسول فيما أمرهم به ودعاهم إليه بقوله : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ ) ( المائدة : ١٥ ).
وفي رواية عن الرضا عليه السلام : « فخذ عليَّ السِفْر الثالث فيه ذكر محمّد وبشارة عيسى بمحمّد » ، قال الجاثليق : هات . فأقبل الرضا يتلو السفر من الإنجيل ، حتَّى بلغ ذكر محمّد ، فقال : « يا جاثليق ، من هذا النبيّ الموصوف ؟ » ، قال الجاثليق : صفه ، قال : « لا أصفه إلَّا بما وصفه الله تعالى ، هو صاحب الناقة والعصا والكساء ، ( النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) ( الأعراف : ١٥٧ ) ، يهدي إلى الطريق الأفضل ، والمنهاج الأعدل ، والصراط الأقوم ... » (4) الحديث.
2 ـ علائم في الكتب السماوية للمصلح العالمي : فقد ورد في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) ( الأنبياء : ١٠٥ ) ، وحيث كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يتلو هذه الآية على أشدّ خصومه وهم اليهود وهم بمرأى منه وهم سكوت وهي علامة الرضا ، إذ لو لم يكن هذا الحديث في التوراة وهم المتربّصون بالنبيّ الأكرم لاعترضوا عليه ونفوه ، ولو كان صدر منهم اعتراض لانعكس إلينا.
3 ـ علامات يوم القيامة وهي على قسمين :
القسم الأوّل : علامات تتحقَّق قبل وقوع القيامة ، وتسمّى أشراط الساعة ، وقد ذكرت الروايات منها بعثة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، واندكاك السدّ ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وإتيان السماء بدخان مبين ، ونزول السيّد المسيح عليه السلام ، وخروج دابة من الأرض ، والفاطمي ، وقتل الدجّال. قال عبد الوهاب الشعراني في ( اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر ) (5) : ( إنَّ جميع أشراط الساعة التي أخبرنا بها الشارع حقّ لا بدَّ أن تقع كلّها قبل قيام الساعة ، وذلك كخروج المهدي عليه السلام ، ثمّ الدجّال ، ثمّ نزول عيسى ، وخروج الدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ورفع القرآن ، وفتح سدّ يأجوج ومأجوج ، حتَّى لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا مقدار يوم واحد لوقع ذلك كلّه ).
وقال تعالى : ( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) ( محمّد : ١٨ ) ، والأشراط جمع ( شَرَط ) وهي العلامة ، وعلى هذا فإنَّ أشراط الساعة إشارة إلى علامات اقتراب القيامة. ويعتقد أكثر المفسّرين أنَّ المراد من أشراط الساعة هو ظهور شخص النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « بعثت أنا والساعة كهاتين ـ ويجمع بين سبابتيه ـ » (6).
ووردت أحاديث عديدة في بيان أشراط الساعة ، من قبيل شيوع كثير من المعاصي بين الناس ، فقد ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : « إنَّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويفشو الزنا » (7).
وقد ورد عن ابن عبّاس ، قال : حججنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حجة الوداع فأخذ بحلقة باب الكعبة ثمّ أقبل علينا بوجهه ، فقال : « ألا أخبركم بأشراط الساعة ؟ » ، وكان أدنى الناس منه يومئذٍ سلمان رحمة الله عليه ، فقال : بلى يا رسول الله ! فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : « إنَّ من أشراط القيامة إضاعة الصلوات واتّباع الشهوات ، والميل إلى الأهواء ، وتعظيم أصحاب المال ، وبيع الدين بالدنيا ، فعندها يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يذاب الملح في الماء ممَّا يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره ... » (8) والحديث طويل.
القسم الثاني : علامات وحوادث كتخلخل النظام الكوني ، واندثار النظام السائد ، وظهور نظام جديد ، كما ذكر ذلك في سورة التكوير ، والزلزلة ، والانشقاق ، والانفطار.
4 ـ علامات ظهور الحجّة عليه السلام ، فقد روى المسلمون على اختلاف طوائفهم أحاديث كثيرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حول المهدي وعلامات ظهوره ، وما يجري في أيّامه ، وهكذا روى أهل البيت عليهم السلام.
فقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عن ظهور القائم فتنهَّد (9) وقال : « يا لها من طامة ـ وبكى ـ إذا حكمت في الدولة الخصيان والنسوان والسودان ، وأخذت الإمارة الشبان والصبيان ، وخرب جامع الكوفة من العمران ، وانعقد الجسران ، فذلك الوقت زوال ملك بني عمّي العبّاس ، وظهور قائمنا أهل البيت عليهم السلام » (10).
وقد ورد في بعض الروايات أنَّ من علامات الظهور : « خسف يكون ببغداد ، وخسف قرية ( جابية ) بالشام ، وخسف بالبصرة ، ونار تظهر بالمشرق طولاً وتبقى في الجوّ ثلاثة أيّام أو سبعة أيّام ، ونار تظهر من أذربيجان لا يقوم لها شيء ، وخراب الشام ، وعقد الجسر ممَّا يلي الكرخ ببغداد ، وارتفاع ريح سوداء بها في أوّل النهار ، وزلزلة حتَّى ينخسف كثير منها ، واختلاف صنفين من العجم ، وسفك دماء كثيرة بينهم ، وغلبة العبيد على بلاد الشام ، ونداء من السماء يسمعه أهل الأرض كلّ أهل لغة بلغتهم ... » (11) الخبر.
ومن الروايات التي ذكرت علامات الظهور : « خروج راية من المشرق ، وراية من المغرب ، وفتنة تُضِلُّ أهل الزوراء ، وخروج رجل من ولد عمّي زيد باليمن ، وانتهاب ستارة البيت » (12).
وقال الباقر عليه السلام : « لا بدَّ أن يملك بنو العبّاس ، فإذا ملكوا واختلفوا وتشتَّت أمرهم خرج عليهم الخراساني والسفياني ، هذا من المشرق ، وهذا من المغرب ... » (13) الخبر.
وقد تُقسَّم علائم الظهور إلى علائم محتومة ( قابلة للبداء ) وغير محتومة ، وقد تقسَّم إلى علائم قريبة وبعيدة ، وتقسَّم إلى علائم قبل عصر الظهور وعلائم بعد عصر الظهور ، وقد تقسَّم إلى علائم طولية وعلائم عرضية ، وعلائم قد تحقَّقت وعلائم لم تتحقَّق ، وعلائم تتداخل مع علائم يوم القيامة وعلائم تختصّ بظهور القائم ، وعلائم فيها جنبة من العمومية وعلائم ليست فيها جنبة من العمومية ، وعلائم قد تكرَّر ذكرها في الروايات وعلائم اختصَّ ذكرها في بعض الروايات ، وعلائم قد دلَّت الروايات على أنَّها حصرية وعلائم لم تتناولها الروايات بالحصر.
وقد ذكرت كتب أبناء العامّة علائم ظهور المهدي عليه السلام ، كسنن ابن ماجة ، وسنن أبي داود ، وكتب السيوطي ، والطبراني ، والشافعي ، وغيرهم.
وهدفنا من هذه الدراسة الإشارة إلى أنَّه ينبغي في دراسة علائم الظهور أن تكون الدراسة قائمة على أساس الأشباه والنظائر ، نظير علائم البشائر وعلائم القيامة.
فلسفة ذكر العلائم :
ولأجل البحث في فلسفة ذكر هذه العلائم فلا بدَّ من الالتفات إلى أمور :
1 ـ إنَّ الهدف من ذكر نماذج للعلامات هو التنبيه على أنَّ مصطلح علائم ظهور الإمام ليس منحصراً بهذه الظاهرة ، بل لها من النظائر والأشباه ، والتأكيد على أنَّ قراءة علائم الظهور لا بدَّ أن تكون على غرار ووزان قراءة العلامات الأخرى مع ملاحظة الفوارق.
2 ـ إنَّ جملة من علائم الظهور هي من علائم يوم القيامة.
3 ـ إنَّ علائم الظهور ليست في مرتبة واحدة ، بل بعض تلك العلائم ( العلائم العامّة ) قد تحقَّق وبعضها وإن تحقَّق بالمرتبة النازلة منها إلَّا أنَّها علائم تشكيكية بمعنى أنَّ لها قابلية الزيادة والنقيصة كما ورد : « بعدما مُلئت ظلماً وجوراً » أو الميل مع الأهواء أو بيع الدين بالدنيا ، فإنَّ من علائم الظهور بعث الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وزوال حكومة بني العبّاس ـ بناءً على عدم عودة حكومة بني العبّاس ـ.
وعليه فتحقّق العلامة لا يوجب الظهور.
4 ـ إنَّ بعض العلائم فيها جنبة الإعجاز والإذعان بظهور المهدي عليه السلام دون البعض الآخر ، وهذا كلّه بالنسبة للعلامة المقارنة للظهور دون العلائم السابقة عليه.
ثمّ إنَّ هذه العلامة التي فيها جنبة الإعجاز فإنَّ الظاهر المعظم فيها أنَّها للمتخصّص لا لعامّة الناس ، فإنَّ العلامة لها وجهتان ( واقعية ، غير واقعية ) يميّزها المتخصّص الحاذق ، حتَّى العلامة الحتمية كما في حديث المفضَّل الآنف حيث ورد المعروفون بالزيدية فإنَّهم يقولون : ما هذا إلَّا سحر عظيم ، كبشائر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ويؤكّده رواية المفضَّل عن أبي عبد الله في حديث الظهور حيث ورد : « ويتَّصل به وبأصحابه خبر المهدي عليه السلام » أي يتَّصل بالحسني وأصحابه الذين هم كنوز الله ، كنوز لا من ذهب ولا من فضّة ، بل رجال كزبر الحديد ، « فيقولون : يا بن رسول الله من هذا الذي نزل بساحتنا ؟ فيقول : أخرجوا بنا إليه حتَّى ننظره من هو وما يريد وهو يعلم أنَّه المهدي ... » (14) الحديث ، إذ الظاهر مع ورود خبر المهدي لأصحاب الحسني كنوز الله المسبوقين بتلك العلائم خرجوا إليه لمعرفة ما يريد ومن هو فخبره شيء وماذا يريد شيء آخر فمجرَّد وصول الخبر لا يلازم لزوم معرفته شخصياً ومعرفة مشروعه.
5 ـ إنَّ السرّ في ذكر البشائر على ما ورد في الخبر : « هو تصديقي وتصديقكم ، وعذري وعذركم » (15) أي سيكون أوّلاً تصديق بالإعجاز الصادر عن الأئمّة عليهم السلام في إخبارهم عن خصائص المهدي عليه السلام وإثبات حقّانيتهم ، وثانياً يكون تصديقاً للمهدي عليه السلام ، وبعبارة أخرى نصدّق بأخبار الغيبة التي أخبر عنها الأئمّة وذلك بالمشاهدة ، ثمّ نطبّق تلك العلائم على الإمام المهدي ، فإذعان بالكلّيات والعلائم وتنزيلها على الفرد والمصداق ومادة يحتجُّ بها على الآخرين وهكذا تكون مادة للاعتذار.
6 ـ الجمع بين خصيصتين ( المجيء بغتة ) و ( المجيء بعد الأشراط ) كما تشير الآية الكريمة : ( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) ( محمّد : ١٨ ) ، الوجه في ذلك : ينظرون من الانتظار وإنَّ الأشراط جمع شرط وهي العلامة والمراد من أشراط الساعة أي علامات اقتراب القيامة وليس المراد من قوله تعالى : ( فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) أي تحقَّق جميع العلامات ، بل المراد أنَّ بعضها قد ظهر ، وفي هذا إشارة إلى اقتراب المشروط ، والآية تريد أن تشير لبيان أمر واقعي وهو أنَّ مجيء القيامة يكون بغتة ، وليس المراد أنَّهم ينتظرون إتيانها بغتة حتَّى يكون قيد بغتة للانتظار ، فحصول المشروط بغتة لا أنَّ الإتيان عندهم بغتة ، بل الإتيان عندهم ينبغي أن يكون من أوّل الأمر لا عند حصول المشروط وهي الساعة المفسَّرة بالمهدي المنتظر كما في رواية مختصر بصائر الدرجات (16) ، وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : « إنَّما مثله ( أي المهدي ) كمثل الساعة لا تأتيكم إلَّا بغتة ) (17) ، فالآية الواردة في سياق التهكّم أي كيف لهم أن ينتفعوا بالذكرى عند قيام المشروط بغتة إذ لا مجال للعمل حينئذٍ ، وإنَّما ينبغي الانتفاع بالذكرى من الآن بعد ما جاءت أشراط القيامة وعلاماتها والمهدي ، فبعد إذعانكم بالقيامة واقترابها والمهدي بسبب تقدّم أشراطها وعلاماتها ، فعليكم بالعمل الآن ، لأنَّه ينبغي أن تحتملوا في كلّ آن أنَّ مجيء القيامة بغتة فلا ينفعكم العمل ، فالآية واردة في مقام لزوم تأصيل العمل والمبادرة إليه فوراً ، وفيها إشارة لا حاجة إلى التسويف في أشراطها ، فالعلامات شروط للوجوب خارج عن حيّز التكليف ، لا أنَّها شروط وجودية حتَّى تكون محط نظر التكليف والإعداد لها ، فحال العلامات حالُ ( إذا زالت الشمس فصلّ ) ، فإنَّ زوال الشمس وإن كان علامة لوجوب الصلاة ، ولكن لا أهمّية للزوال وإنَّما تمام الأهمّية للصلاة وإعداد المقدّمات الوجودية للصلاة كالوضوء والطهارة ، وتوفير جميع المقدّمات التي يتوقَّف عليه العمل ، وهكذا ينبغي لمن يريد الحجّ أن يوفّر جميع الأمور التي يتوقَّف عليها الحجّ قبل تسعة ذي الحجة فشراء التذكرة وإعداد جواز السفر وغير ذلك لا بدَّ أن يوفّرها حالاً حتَّى يتسنّى له العمل في وقته.
بيان الحال في المنظومة المهدوية :
وبهذا البيان يتَّضح الحال في المنظومة المهدوية :
أ ـ إذا ظهر المهدي عليه السلام فلا يخفى أمره على أحد ، وذلك لتقدّم أشراط الظهور ، بل وتحقّق بعضها قبل الظهور وحينه. وفلسفة العلامة هو تأمين ظاهرة الانتظار كما ورد في الآية.
ب ـ « المهدي منّا أهل البيت يصلح الله أمره في ليلة » ، وفي رواية أخرى : « يصلحه الله في ليلة » (18) أي أنَّ الظهور يكون بغتة. وقد تقدَّم أن لا تصادم بين العلامات وبين الظهور بغتة.
ج ـ قد ورد في مختصر بصائر الدرجات منهج التعامل مع القضية المهدوية ، فقد ورد في ذيل ( أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ) ( الشورى : ١٨ ) : قلت : فما معنى يمارون ؟ قال : « يقولون : متى ولد ، ومن رآه ، وأين يكون ، ومتى يظهر ، وكلّ ذلك استعجالاً لأمر الله وشكّاً في قضائه ودخولاً في قدرته » (19) ، ثمّ إنَّ عدم معرفة الناس بزمن الظهور ، وضمنية كون الظهور يأتي بغتة يستدعي وقوع الظهور في أي وقت وينبغي ترقّبه والاستعداد ، فعدم المعرفة له أثر مثبت جليّ في النفوس.
٧ ـ وهكذا لسان بعض الروايات مثل : « لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا ليلة لملك فيها رجل من أهل بيتي » (20) ، وهذا اللسان في الروايات قد تكرَّر في موارد منها قصّة المهدي عليه السلام ، ومنها ما ورد في الحديث : « إنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يوماً بارزاً للناس إذ أتاه رجل يمشي فقال : يا رسول الله متى الساعة ؟ قال : « ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدّثك عن أشراطها » (21).
وهذا نظير النهي عن التوقيت ، وأنَّ وقت خروج الإمام مجهول حتَّى لمثل الإمام. فقد ورد في رواية المفضَّل في مختصر بصائر الدرجات : قلت : أفلا يوقّت له وقت ، فقال : « يا مفضَّل لا أوقّت له وقتاً ولا يوقّت له وقت ، إنَّ من وقَّت لمهدينا وقتاً فقد شارك الله تعالى في علمه وادّعى أنَّه ظهر على سرّه » (22) ، فالتعليل ظاهر في انتفاء العلم حتَّى للأئمّة والله العالم ، مع الحفظ على مقولة علم الإمام (23).
ومنه قوله تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ) ( الأعراف : ١٨٧ ) ، وقوله عز وجل : ( يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ) ( الأعراف : ١٨٧ ) ، قيل ـ كما في الكشّاف للزمخشري ـ : ( تختصّهم بتعليم وقتها لأجل القرابة ) (24) ، وكيفما كان فإنَّ ظاهر الآية الكريمة يريد عدم معرفة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بوقت الساعة ، وينفي أنَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان قد أخبر بعض أقربائه دون غيرهم.
٨ ـ ورد في الخبر : « من سرَّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنَّه رأي عين فليقرأ : ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) ( التكوير: ١ ) » (25) ، لأنَّ هذه السورة تعرض علائم يوم القيامة ، ومن المعلوم أنَّ الإذعان بيوم القيامة يقتضي أن يكون المكلَّف قد أعدَّ نفسه لهذا السفر ، لاسيّما مجيئه بغتةً.
وهكذا يمكن أن نقول في علائم الظهور ، فالنظر إلى العلائم لا لموضوعية فيها ، وإنَّما هي على نحو الطريقية إلى النظر لصاحب الأمر ، فليقرأ علائم الظهور من حيث الإذعان ، وفي دائرة العقل العملي لا في العقل النظري كما ورد عنهم عليهم السلام في استحباب الإكثار من ذكر : ( الله أكبر ) أو ( سبحان الله ) أو ( الحمد لله ) ، فالهدف حسب الظاهر هو تحريك العقل العملي والوصول إلى شاطئ الإيمان والإذعان ، وعقد القلب لاستنارة الفكر.
٩ ـ لم يحدّثنا التاريخ عن وجود مدرسة تسعى في تحقيق معالم القيامة لأجل التعجيل ، فمن المناسب أن ننتهج نفس المنهج في علائم الظهور ، فمن زخرف القول أن نعجل في المعاصي لكي يظهر الإمام. فهي كما تقدَّم مقدّمات وجوبية لا وجودية فيجب عدم تحقيقها وينبغي السعي للتعجيل في الظهور لا التعجيل في العلامة والفرق واضح بينهما.
١٠ ـ روي أنَّ رجلاً أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال : متى قيام الساعة ؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « فما أعددت لها ؟ » ، قال الأعرابي : ما أعددت لها من كثير عمل لا صلاة ولا صوم إلَّا أنَّني أحبّ الله ورسوله ، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : « المرء مع من أحبّ » (26).
فتغيير السؤال من (متى) إلى (ماذا) إنَّما لبيان المناسب في مقام السؤال وهو النهي عن هذا الوقت، وليس السؤال عن التاريخ والزمان، هذا أوّلاً.
وثانياً: إقرار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأنَّ المهمّ هو كون الشخص قد ميَّز الحقّ فأحبّه وأحبّ أهله ليستتبع ذلك العمل به فيحشر مع الحقّ وأهله.
وثالثاً: إنَّ الأجل غير معلوم، وهو أجل قد أعدَّه الله، لعلمه أنَّ صلاح الخلق في إدامة التكليف عليهم إلى ذلك الوقت.
ورابعاً: التأكيد على لابدّية هذا الأمر.
وخامساً: الاهتمام بالجانب التربوي المترتّب للنظر في تلك العلامات، إذ بمقتضى الإطلاق المقامي وكون المتكلّم في مقام البيان أنَّ الأمر الذي ينبغي أن يقع حوله السؤال هو إعداد العمل، ومن الواضح عدم ذكر العلامات وحصر الأهمّية بقوله: (ماذا أعددت من عمل) يفهم انحصار الأهمّية بذلك لا غير.
ومنه يفهم حديث عمر بن أبان، عن أبي عبد الله عليه السلام: (اعرف العلامة فإذا عرفتها لم يضرّك تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر)(٢٠٢)، ويؤيّده أنَّ تحقّق بعض تلك العلامات يجتمع مع مفهوم الانتظار وبعد تحقّق العلامة تزول فائدتها من جهة أنَّها سالبة بانتفاء الموضوع، فالذي يبقى مصاحباً هو الانتظار، فهو محط التكليف. إذن فالمهمّ في النظر الديني هو تنشيط ظاهرة الانتظار، والإعداد له، وليس المهمّ الوقوف على العلامة إلاَّ بمقدار كونه كاشفاً إذعانياً.
١١ _ ويحتمل أنَّ الإخبار عن الحوادث المستقبلية كعلائم الظهور قد تكون في سياق المعجزة والإخبارات الغيبية، فندور مدارها من الفائدة.
١٢ _ لا بدَّ من الالتفات إلى بعض السذّج من الناس حينما يواجهون أحداثاً خطيرة، فإنَّهم يظهرون اهتمامهم بقضيّة الإمام المهدي عليه السلام، وبعلائم الظهور، ويبحثون عن المزيد ممَّا يمنحهم بصيص أمل، بل قد حاول بعض الكتّاب تنفيذ هذه الرغبة، وبذل جهوداً كبيرةً لترسيم المستقبل وفق ما تيسَّر من النصوص التي جاء أكثرها غامضاً وغائماً، واختلط غثها بسمينها، وتعرَّض كثير منها للتحريف، وزيد فيها ونقص وقطع، بل ينبغي للمؤمن أن يعيش عذوبة الانتظار وهذا معنى قوله: (اعرف العلامة فإذا عرفتها لم يضرّك تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر)(٢٠٣).
فما ذكره البعض من وجوب معرفة علامات الظهور مستدلّين عليه بوجوب معرفته عليه السلام بشخصه ولا يمكن ذلك إلاَّ بالتعرف على العلائم، ففيه:
أوّلاً: هذا الدليل لا يأتي في العلائم غير المحتومة والعلائم التي تقع قبل ظهوره.
ثانياً: لا تنحصر معرفة الإمام بشخصه عن طريق تلك العلائم وإن كانت حتمية ومقارنة لظهوره، نظير معرفة المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين البعثة مع جهلهم بالبشائر، وأنَّ الإمام سيملك من المعاجز التي يستطيع بواسطتها التعرّف عليه، وهكذا مواريث الأنبياء.
وأمَّا صيغة افعل في قوله: (اعرف العلامة) الدالّ على وجوب التعرّف أو استحبابه، ففيه أنَّ الظاهر من الأمر الإرشادية لا النفسية.
١٣ _ في المنظومة المهدوية هناك مفردات ينبغي الاهتمام بها منها: (البيعة) وقد ورد في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)(٢٠٤)، وورد: (اللَّهُمَّ إِنِّي اُجَدَّدُ لَهُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِي هَذَا وَمَا عِشْتُ مِنْ أيَّامِي عَهْداً وَعَقْداً وَبَيْعَةً لَهُ فِي عُنُقِي)(٢٠٥).
ومنها: (المودّة له) اعتماداً على قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (الشورى: ٢٣). وفي حديث الصادق عليه السلام حينما دخلوا عليه فرأوه يبكي ويقول: (سيّدي غيبتك نفت رقادي)، وليتأمَّل في كلام الإمام الصادق حيث يعبّر: (غيبتك) فهو إشارة إلى ما ورد في ذيل الحديث: (نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم _ وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا والرزايا وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة الذي خصَّ الله به محمّداً والأئمّة من بعده عليهم السلام _ وتأمَّلت منه مولد غائبنا وغيبته وإبطاءه وطول عمره وبلوى المؤمنين في ذلك الزمان... فأخذتني الرقّة، واستولت عليَّ الأحزان)(٢٠٦).
ومنها: (الدعاء له): (اللّهمّ أيّده بنصرك وانصر عبدك وقوّ أصحابك وصبّرهم وافتح لهم من لدنك سلطاناً نصيراً وعجّل فرجه وأمكنه من أعدائك وأعداء رسولك يا أرحم الراحمين)(٢٠٧).
ومنها: (السلام عليه) كزيارة آل يس.
الهوامش
1. تفسير القمي ١ : ٣٣.
2. الكافي ١ : ٢٩٣ / باب الإشارة والنصّ على أمير المؤمنين عليه السلام / ح ٣.
3. الكافي ٨ : ١١٧ / باب أمره سبحانه رسوله بالوصيّة ... / ح ٩٢.
4. الثاقب في المناقب : ١٩٠ / باب ٢ / ح ( ١٧١ / ١ ).
5. أنظر : الإمام الثاني عشر عليه السلام / السيّد محمّد سعيد الموسوي : ٤٢ عنه.
6. أمالي المفيد : ٢١١ و ٢١٢ / ح ١.
7. روضة الواعظين : ٤٨٥.
8. أنظر : تفسير القمي ٢ : ٣٠٣ - ٣٠٧.
9. أي تنفَّس الصعداء.
10. الملاحم والفتن : ٣٦٩ / ح ٥٤٢.
11. الملاحم والفتن : ٣٧٠.
12. بحار الأنوار ٨٣ : ٦٣ / ح ١.
13. الغيبة للنعماني : ٢٦٧ / باب ١٤ / ح ١٨.
14. الهداية الكبرى : ٤٠٣.
15. الكافي ١ : ٢٩٣ / باب الإشارة والنصّ على أمير المؤمنين عليه السلام / ح ٣.
16. عن المفضَّل بن عمر ، قال : سألت سيّدي الصادق عليه السلام : هل للمأمول المنتظر المهدي عليه السلام من وقت موقَّت يعلمه الناس ؟ فقال : « حاش لله أن يوقّت ظهوره بوقت يعلمه شيعتنا » ، قلت : يا سيّدي ولِمَ ذاك؟ قال : « لأنَّه هو الساعة التي قال الله تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... ) الآية ) ( مختصر بصائر الدرجات : ١٧٩ ).
17. عن أحمد بن محمّد بن المنذر ابن حيفر ، قال : قال الحسن بن علي عليهما السلام : « سألت جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الأئمّة بعده ، فقال : الأئمّة بعدي عدد نقباء بني إسرائيل اثنا عشر ، أعطاهم الله علمي وفهمي ، وأنت منهم يا حسن ، قلت : يا رسول الله فمتى يخرج قائمنا أهل البيت ؟ قال: يا حسن إنَّما مثله كمثل الساعة ( ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) » ( كفاية الأثر : ١٦٨ ).
18. كمال الدين : ١٥٢ / باب ٦ / ح ١٥.
19. مختصر بصائر الدرجات : ١٧٩.
20. كشف الغمّة ٣ : ٢٧٣ ؛ بحار الأنوار ٥١ : ٨٣ .
21. صحيح البخاري ٦ : ٢٠ و ٢١.
22. مختصر بصائر الدرجات : ١٧٩.
23. راجع : كتاب حقيقة علم آل محمّد وجهاته للسيّد علي عاشور.
24. الكشّاف ٢ : ١٣٥.
25. الدرّ المنثور ٦ : ٣١٨.
26. علل الشرائع ١ : ١٣٩ و ١٤٠ / باب ١١٩ / ح ٢.
27. الكافي ١ : ٣٧٢ / باب أنَّه من عرف إمامه ... / ح ٧.
28. الغيبة للنعماني : ٣٥٢ / باب ٢٥ / ح ٦.
29. عن عبد الله بن مطيع ، قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : « من خلع يداً من طاعة لقى الله يوم القيامة لا حجّة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » ( صحيح مسلم ٦ : ٢٢ / باب حكم من فرَّق أمر المسلمين ).
30. بحار الأنوار ٥٣ : ٩٦ / ح ١١٠ دعاء العهد.
31. كمال الدين : ٣٥٣ و ٣٥٤ / باب ٣٣ / ح ٥٠.
32. مصباح المتهجّد : ٦١ / ح ( ٩٦ / ٦٩ ).
مقتبس من كتاب : [ العقيدة المهدوية إشكاليات ومعالجات ] / 159 ـ 175
التعلیقات