النية والعمل في رأي الإمام الصادق (عليه السلام)
موقع وارث
منذ 7 سنواتبِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى.
سقنا فيما تقدم طائفة غير قليلة من الآراء والنظريات العلمية التي قال بها الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ودل بها على أنه كان ذا عبقرية فريدة في هذه الميادين. ولكن عبقريته لم تقتصر على هذه الميادين، بل شملت أيضا، الميادين الإنسانية والاجتماعية التي رفدها بآراء وأفكار أيديولوجية أنارت الطريق أمام البشرية. وخليق بنا أن نتأمل لنقف على أوجه التجديد والعمق فيها، ولندرك كيف سبق الكثيرين من الأيديولوجيين العظام الذين عرفهم العالم منذ القرن السابع عشر الميلادي.
ويقول أيضا إن الإنسان ولد صادقا أمينا، ولم يخلق ليكذب أو ليأتي بعمل يخالف عقيدته، إلا أن البعض ينحرف إلى الكذب، ويعمل على خلاف عقيدته(1).
ويقول كذلك بأن الطفل لا يعرف الكذب ولا يعمل إلا ما يمليه عليه قلبه وعقيدته، فإن أحب أحدا انجذب إليه، وإن كره أحدا نأى عنه، وإذا أحب شيئا مد يده إليه، وإن كره شيئا لم تقو يده على حمله. وهذا كله دليل على أن المرء صادق بطبيعته، وأن عمله يتفق أصلا مع تفكيره.
ولكن الملاحظ أن المرء إذا بلغ مبلغ الرشد، اختلفت أعماله عن عقيدته ورأيه، وحل الكذب محل الصدق، ولو عند البعض من الناس.
ويقول المشتغلون بعلوم الأحياء إن الإنسان الأول لم يكن قادرا على الكلام، ولم يكن بالتالي قادرا الكذب أو إيتان عمل يخالف رأيه ومعتقده، وما مكنه من الكذب ومخلفة الضمير إلا اعتياده الكلام بعد ذلك.
ولم يكن هناك خلاف بين الوضع الاجتماعي للإنسان الأول والوضع الاجتماعي للحيوان، فإن أحب أحدهما نظيره عايشه وائتلف معه، وإن كرهه دب بينهما النزاع والقتال.
وكان الإنسان الأول شبيها بالحيوان من حيث أنه لم يكن يستطيع الظهور بمظهر يخالف ما يبطن، فلما نطق وتكلم، عرف الكذب، وعرف كيف يظهر خلاف ما يبطن، وينطق بما لا يعتقد.
صحيح أن ارتقاء البشرية وحضارتها بدءا مع الكلام وقدرة الإنسان على نقل أفكاره ومشاعره إلى الغير والإصغاء إلى تجارب الآخرين وأفكارهم للاستزادة من المعلومات والتجارب، ولكن المؤكد كذلك أن الكلام والنطق كانا أداة للكذب والرياء.
ويقول الكاتب الدنمركي (بالو وان مولر) إن الإنسان لم يعرف في بدء نشأته أمرين يتعلقان بحياته، هما الكذب والموت. ولهذا الكاتب رواية عنوانها (موت هابيل) تعد عند الأدباء من الآثار النفيسة المعاصرة. وقد صور فيها بخياله البارع مأساة موت هابيل، وكيف أن آدم وحواء كانا يعتقدان في بادئ الأمر بأن ابنهما هابيل نائم، فلما طال نومه أكثر من يومين، ودب البلى في جسده، واجتمعت الطيور لنهش جثته، تنبها إلى موته على الرغم من أنهما جربا من قبل موت الحيوانات عند صيدها.
وكان الفيلسوف البلجيك العالم (مترلينك) المعروف بآرائه المادية يقول إن الصورة التي يطبعها نجم وقع شعاعه على لجة ماء قبل مئات الملايين من السنين لا تفنى، فكيف بالإنسان؟ وكان مترلينك يحضر بنفسه جلسات تحضير الأرواح ويردد قائلا: ما دام الإنسان لا يعرف الفناء، فلعل ما يبقى منه بعد موته يظل مرتبطا بأهله وعشيرته الأحياء على الأرض.
وإلى ما قبل القرن الماضي، كان الفقراء في دول أوروبا كإسبانيا وإيطاليا وفرنسا، يطوفون في الشوارع والأزقة في ظلام الليل مرددين بصوت مرتفع (أيها الناس، إن موتاكم في انتظاركم، وهم بحاجة إلى طعام وشراب، فارحموا موتاكم). فكان الناس يتصدقون عليهم بالطعام والشراب، وكان النساء الطيبات المؤمنات يعطين الفقراء كأسا من الشراب ظنا منهن بأن ذلك يروي غليل المتوفى.
وما زالت عادة التصدق على أرواح الموتى سائدة في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، مما يدل على أن القوم في هذه البلاد يعتقدون بالحياة بعد الموت، ولولا ذلك لما تصدقوا.
وهناك اعتقاد شائع في بعض الدول المتقدمة بأن إطعام الفقراء والمساكين كفيل بتخفيف حدة العطش والجوع عند الموتى من أقرباء المتصدقين.
وذكرنا في ما سبق إن الإمام الصادق (عليه السلام) يرى أن الإنسان يولد مفطورا على الصدق والأمانة، ويتصرف وفقا لما يعتقده، كما قلنا إن الإنسان الأول لم يعرف الكذب، وإن اختلف العلماء في تاريخ نشأة الإنسان الأول اختلافا شاسعا،ففي رأي بعض العلماء أن الإنسان كان موجودا على الأرض من ستين مليون سنة، وفي رأي غيرهم أن عمر الإنسان على الأرض أقصر من ذلك بكثير، وأنه وجد منذ أربعة ملايين سنة فقط كما يقول البعض الآخر إن الإنسان وجد في الدهر الثالث من عمر الكرة الأرضية، أي في الفترة التي انقرضت فيها الديناصورات (الحيوانات الضخمة) التي أدى تحلل أجسامها تحت الأرض إلى تكوين بحيرات النفط الشاسعة في أنحاء شتى من العالم.
وقد عثر في الصين على هيكل عظمي بشري موغل في القدم، والعلماء عاكفون على دراسته لمعرفة عمره، وبالتالي تجديد عمر الإنسان على الأرض، فإن ثبت أن عمر هذا الهيكل العظمي ستون مليون سنة، جاء ذلك معززا لرأي القائلين تجديد عمر الإنسان على الأرض، فإن ثبت أن عمر هذا الهيكل العظمي ستون مليون سنة، جاء ذلك معززا لرأي القائلين ن الإنسان الأول نشأ على الأرض في الدهر الثالث من عمرها، وهي الفترة التي اتخذت فيها الأرض شكلها الحالي، بعد ما انقطعت السيول الهائلة المستمرة والأمطار الغزيرة والأنهار العاتية، وانتظمت فيها سلاسل الجبال والسهول والوديان الحالية.
فالإنسان قد استقر على الأرض بعد اجتيازه مرحلة الحلقة المفقودة(2)، وكان يمشي على أربع دون أن ينطق أو يتكلم، باستثناء أصوات تصدر هي أقرب إلى الصراخ والصياح، وكان الإنسان الأول بطئ الحركة فصار لقمة سائغة للحيوانات الضارية تفتك به قبل أن يتمكن من إفلات منها.
وكان جسمه مغطى بشعر كثيف يشمله من هامة الرأس إلى أخمص القدم ليقيه وقدة الحر وشدة البرد، ولكن هذا الشعر كان مرعى للحشرات من قمل وبراغيث، مما كان يضطره إلى حك جلده طول الوقت وتفلية شعره من هذه الحشرات.
أما الهم الآخر الذي كان يشغل الإنسان الأول، فهو الأكل والشرب. وكان طعامه الوحيد هو الحشائش والنباتات الخضراء، دون اللحم، ولقلة السعرات الحرارية (الكالوري) في النباتات، كان الإنسان الأول لا يكف عن الأكل لإحساسه الدائم بالجوع. ولأنه كان يمشي على أربع، فقد كانت يداه من الضعف بحيث لا تقويان على الإمساك بالأشياء كما هو حالهما اليوم. وكان يقطف الثمار بفمه، شأنه شأن البهائم، وقد ظل الإنسان الأول على هذه الحال ملايين من السنين حتى تطورت أعضاؤه واتخذت شكلها الحالي.
ويقول المفكر المعاصر (مارشال مكلوهان) إن أسباب رقي الإنسان وانتقاله إلى الحضارة أنه على أربع في بداية نشأته، فأدى المشي على الرجلين واليدين إلى تقسيم المخ إلى نصفي كرة وتقوية خلاياه وتنشيط الذاكرة والقدرة على الحفظ، وهي العوامل التي كانت سببا رئيسيا في انتقال الإنسان إلى مرتبة التمدن.
ويقول هذا المفكر: لو حدثت كارثة طبيعية أو حروب علمية وأطاحت بكل مظاهر التراث العلمي والثقافي الذي توارثناه جيلا بعد جيل، ولم يبق أحد على قيد الحياة من حفظة التراث وذاكريه، وبقي الأطفال الصغار وحدهم في هذا العالم، فمن المؤكد أن هؤلاء الأطفال سيتحولون إلى الهمجية والتوحش وحياة الغابات التي كان يحياها إنسان ما قبل الحضارة، ما داموا يعيشون منقطعين عن أي حضارة يسلكون بموجبها في الحياة.
أما عالم الاجتماع الكندي المعاصر (شواليه) فمن رأيه أن الإنسان الأول كان يمشي على أربع فأدى هذا إلى جعل شطري المخ يمارسان مهمة القيادة، وبفضل نشاط المخ بكامله أي بشطريه انتقل الإنسان إلى مرحلة الحضارة، وفي هذه المرحلة بدأ الإنسان يستعين بإحدى يديه اليمنى أو اليسرى بصورة مستمرة، مهملا اليد الأخرى التي باتت عاجزة عن النهوض بما تنهض به اليد النشطة، وكان إنسان ما قبل التاريخ يتميز بجهله للكذب وعجزه عن إظهار ما يخالف رأيه ورغبته.
فكأن الكذب كان من نتائج الحضارة. والغريب أن الإنسان المتحضر يكذب، ثم يسن القوانين الأخلاقية التي تسفه الكذب والرياء وتستهجنهما، ولكن قوانين السلوك شئ واحترامها شئ آخر.
والملاحظ في عالمنا اليوم، أن المجتمعات البشرية في قلب القارة الإفريقية أو في جزر أقيانوسية وهي التي لم تصل بعد إلى مرتبة الحضارة العصرية تقول الصدق ولا تعرف الكذب والرياء. بل إن دافيد ليفنجستون الذي اكتشف منابع النيل في إفريقيا ورسم الخريطة الجغرافية للقارة الإفريقية، والذي كان يوافي الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية بمذكرات وخرائطه، قد كتب يقول: (إن الأفريقيين السود لم يعرفوا الكذب، ولا هم قادرون عليه إن طلب منهم ذلك) إلا أن ذلك حتى منتصف القرن التاسع عشر، أي قبل أن تقع هذه القارة السوداء تحت سيطرة الاستعمار الغربي.
وقد أبدى الدكتور ليفنجستون معارضة شديدة لتجارة الرقيق، وبذل كل جهد ممكن للحيلولة دون قيام التجار العرب من الأفارقة بتصيد أبناء السود في القارة وبيعهم في أوروبا وأمريكا، وقد أقدم ليفنجستون على رفع العلم البريطاني في تنجانيقا، وطلب من السود أن يقولوا لآسريهم من البيض إنهم من رعايا بريطانيا لينجوا من البيع في سوق النخاسة، ولكنهم أبوا أن يكذبوا، ولم يستطيعوا حمل أنفسهم على قول ما ليس بصحيح. وكان مناوئو الدكتور ليفنجستون يقولون في الطعن غليه إنه لم يقصد برفعه العلم البريطاني على تنجانيقا تحرير السود، بل قصد تمكين البريطانيين من استعمار هذا الجزء وأجزاء أخرى من القارة الإفريقية.
ومما يذكر أن أخبار الدكتور ليفنجستون انقطعت بعد وصوله إلى قلب إفريقيا ولمدة عشر سنوات، مما حدا بجريدة (نيويورك هيرلد تربيون) إلى إيفاد الغامر ستانلي لتقصي آثاره(3)، فذهب ستانلي إلى أفريقيا مرتين، في المرة الأولى للبحث عن الدكتور ليفنجستون، وفي المرة الثانية استصحب معه قافلة كان هو مرشدها وقاضيها. ومما رواه ستانلي في مذكراته أن واحدا من السود قتل زميلا له، فمثل أمامه للمحاكمة، وقضى عليه بالموت، ولكنه قال للقاتل إنه على استعداد لتخفيف الحكم عنه إذا ما تعهد بمسلمة الناس وعدم العودة إلى القتل، فكان رد الزنجي: (ولو أطلقت سراحي فلن أكف عن قتل زملائي الآخرين)، ويعلق ستانلي على هذا القول بقوله إن الزنجي لم يعرف الكذب ولم يستطع أن يخفي نية القتل ولو كان ذلك طلبا للنجاة.
ولكن، ما أن دخلت هذه القبائل الإفريقية وبلادها الحضارة المعاصرة، حتى عرفت الكذب والنفاق وصارت تتوسل بهما.
أنا الإمام الصادق (عليه السلام) فكان يبغض الكذب والنفاق، ويوصي تلاميذه بأن تكون أقوالهم مطابقة لنياتهم، وأن تكون عقيدة المسلم عقيدة يرفدها العقل والخيال، فيؤمن الإنسان بعقله وقلبه وخياله ظاهرا وباطنا دون كذب أو نفاق. وكان يحض أصحابه على اجتناب النفاق والرياء في جميع أعمالهم وفي كل الظروف، ضاربا المثل بآبائه الكرام الذين استشهدوا في سبيل الذياد عن العقيدة،، ولم يضعفوا أو يتخاذلوا تلقاء أي ضغط أو تهديد.
________________________________________
1 - ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: يولد كل مولود على الفطرة إلى أن يهوده أبواه أو ينصراه وفي رواية أخرى (إلا أن أبويه ينصرانه أو يهودانه أو يمجسانه).
2 - يقول العالم البريطاني دارون إن هناك حلقة مفقودة بين القرد والإنسان وقد مضت عليها دهور سحيقة. ولكن العلماء لم يكتشفوا حتى الآن الهيكل العظمي لهذه الحلقة المفقودة بما يثبت صحة ما ذهب إليه دارون ويجعلهم منه حقيقة مقبولة. ومن أسباب الشك في نظرية دارون أن شكل الإنسان كثير التنوع في السحنة واللون والعنصر. ولم يتأت للعلم الحديث حتى اليوم أن يقف على سر التغييرات التي طرأت على (جرثومة) الإنسان في حياته الأولى، وأدت إلى ما نراه اليوم من اختلاف في اللون والمعالم الخارجية. وهذا هو الذي دعا بعض العلماء إلى القول بأن الإنسان الأبيض والأسود قد جاء كل منهما إلى الأرض من عالم مختلف عن الآخر.
3 - ستانلي هو الذي كشف شلال فيكتوريا الذي يقوم على نهر النيجر، وله كتاب هام عن رحلته الإفريقية وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الفارسية وطبع بالحجر في بداية عصر الدستور في إيران، وهو كتاب جغرافي كبير الفائدة. (المترجم).
التعلیقات