السيرة العائلية للإمام الهادي عليه السلام وتحكيم الروابط الأسرية
السيد حسين الهاشمي
منذ 5 أيامالإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام هو الإمام العاشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام. فهو من المعصومين الذين افترض الله تعالى علينا طاعتهم وجعلهم السادة العليا والقادة والجادّة العظمى والصراط المستقيم. فأفعالهم وأقوالهم وسيرتهم حجة علينا ويجب علينا أن نتعلم منهم. فقد قال الإمام الهادي عليه السلام حول الأئمة المعصومين في زيارة الجامعة الكبيرة: « مَنْ أَتاكُمْ نَجا وَمَنْ لَمْ يَأْتِكُمْ هَلَكَ إِلى الله تَدْعُونَ وَعَلَيْهِ تُدُلُّونَ وَبِهِ تُؤْمِنُونَ وَلَهُ تُسَلِّمُونَ وَبِأَمْرِهِ تَعْمَلُونَ وَإِلى سَبِيلِهِ تُرْشِدُونَ وَبِقَوْلِهِ تَحْكُمُونَ » (1).
ومن أهم الأمور التي يجب علينا أن نتعلم من الأئمة ونتبعهم فيها، هي الروابط الأسرية والعائلية. وقد اقترب ذكرى ميلاد الإمام الهادي عليه السلام. فإنه عليه السلام قد ولد في النصف من شهر ذي الحجة سنة اثنتي عشرة أو أربع عشرة ومائتين ، وكانت ولادته عليه السلام في قرية صريا التي تبعد عن المدينة ثلاثة أميال. ولهذه المناسبة الفرحة والمبهجة قررنا أن نقرء القليل من سيرة الإمام الهادي عليه السلام حول العائلة والروابط الأسرية.
تكريم العائلة والإحترام المتقابل
الاحترام في المفهوم الإسلامي لا يقتصر على التعامل الخارجي المهذّب، بل يتعداه ليشمل التقدير الحقيقي للآخر، ومراعاة كرامته، وفهم مشاعره واحتياجاته. وقد قال الله تعالى حول تكريم الوالدين: ﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ (2). وهكذا كان الإمام الهادي عليه السلام مع والدته. فقد روى علي بن مهزيار عنه عليه السلام يقول: « أُمِّي عَارِفَةٌ بِحَقِّي، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، لَا يَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ مَارِدٌ، وَلَا يَنَالُهَا كَيْدُ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَهِيَ مَكْلُوءَة بِعَيْنِ اللَّهِ الَّتِي لَا تَنَامُ، وَلَا تَتَخَلَّفُ عَنْ أُمَّهَاتِ الصِّدِّيقِينَ وَ الصَّالِحِينَ » (3). وفي هذا السياق نرى أن الإمام الهادي عليه السلام كان يحذر الناس من عقوق الوالدين. فقد روي عنه عليه السلام: « قال عليه السلام لشخص وقد أكثر من إفراط الثناء عليه: اقبل على ما شأنك فإن كثرة الملق يهجم على الظنة ... والعقوق يعقب القلة وتؤدى إلى الذلة » (4). وأيضا في الطرف المقابل كان يحذر الإمام عليه السلام الآباء عن عقوق الأبناء فقد روى يحيى بن عبد الحميد: « سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول لرجل ذم إليه ولدا له فقال: العقوق ثكل من لم يثكل» (5).
وأيضا كان عليه السلام يحترم زوجته السيدة سوسن الملقبة بالسليل أو السلول. فقد روي: « لما ادخلت سليل أم أبي محمّد عليه السّلام على أبي الحسن عليه السّلام قال: سليل مسلولة من الآفات والعاهات والأرجاس والأنجاس. ثم قال لها: سيهب اللّه حجّته على خلقه يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا » (6).
الكرم والعطاء للعائلة والأقرباء
حثّ الإسلام على الإنفاق والعطاء، واعتبر المواساة من القيم الرفيعة التي تُقوّي أواصر المجتمع، وتجسّد معاني الرحمة والإنسانية. فقد قال الله تعالى: ﴿ لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ (7). عاش الإمام الهادي عليه السلام في ظل الدولة العباسية وتحديداً في فترة المأمون والمعتز والمتوكل العباسي وهي فترات تميّزت بشدة القمع للعلويين ومحبّي أهل البيت عليهم السلام. تم استدعاؤه إلى سامراء وأُجبر على الإقامة الجبرية هناك. ورغم هذا التضييق، وُجد الإمام عليه السلام يمارس دوره التربوي والروحي وكان يساعد الآخرين خصوصا عائلته وأقربائه وشيعيته الذين كانوا يعيشون في ضيق كبير في ظلّ قسوة الدولة العباسية.
كان للإمام عليه السلام منهجان واضحان في تقديم العون والإفراج عن الناس، كلٌ بحسب ظروفه وإمكانياته. أما المنهج الأول كان من خلال أحاديثه الشريفة. ففي الكثير من الأوقات لم يمكن للإمام عليه السلام أن يساعد الآخرين بنفسه بسبب الضيق الشديد الذي كان عليه عليه السلام. ولهذا قام الإمام بنقل بعض الأحاديث حول العطاء والكرم وعدم البخل ويسمعها للشيعة حتى يفرّجوا عن الآخرين. فقد روي عن الإمام الهادي عليه السلام: « لما كلم الله عز وجل موسى بن عمران عليه السلام، قال موسى عليه السلام : ... إلهي، فما جزاء من كف أذاه عن الناس وبذل معروفه لهم؟ قال: يا موسى، تناديه النار يوم القيامة: لا سبيل لي عليك » (8). وقال عليه السلام: « الدنيا سوق، ربح فيها قوم وخسر آخرون » (9).
والمنهج الثاني هي مباشرة الإمام عليه السلام بمساعدة الآخرين. يقول اسحاق الجلّاب: « اشْتَرَيْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ عليه السلام غَنَماً كَثِيرَةً فَدَعَانِي فَأَدْخَلَنِي مِنْ إِصْطَبْلِ دَارِهِ إِلَى مَوْضِعٍ وَاسِعٍ لَا أَعْرِفُهُ فَجَعَلْتُ أُفَرِّقُ تِلْكَ الْغَنَمَ فِيمَنْ أَمَرَنِي بِهِ فَبَعَثَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ وَإِلَى وَالِدَتِهِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ أَمَرَنِي » (10). وأيضا روى إبن شهرآشوب: « دخل أبو عمر عثمان بن سعيد وأحمد بن إسحاق الأشعري وعلي بن جعفر الهمداني على أبى الحسن العسكري فشكا إليه أحمد بن إسحاق دينا عليه فقال: يا أبا عمرو - وكان وكيله - ادفع إليه ثلاثين ألف دينار والى علي بن جعفر ثلاثين ألف دينار وخذ أنت ثلاثين ألف دينار » (11). فيقول إبن شهرآشوب حول هذا الفعل من الإمام الهادي عليه السلام: « فهذه معجزة لا يقدر عليها إلا المملوك وما سمعنا بمثل هذا العطاء » (12). وقال داوود بن القاسم الجعفري: « دخلت عليه بسر من رأى وانا أريد الحج لاودعه فخرج معي فلما انتهى إلى آخر الحاجز نزل ونزلت معه فخط بيده الأرض خطة شبيهة بالدائرة ثم قال لي: يا عم خذ ما في هذه يكون في نفقتك وتستعين به على حجك فضربت بيدي فإذا سبيكة ذهب فكان منها مائتا مثقال » (13).
الهداية الفكرية والعقائدية في إطار المساعدة
لم يكن الإمام الهادي عليه السلام يهتمّ بمساعدة عائلته وأقرباءه وشيعته فقط بل كان يهتمّ بهدايتهم الفكرية والعقائدية وإرشادهم إلى الإعتقادات الصحيحة التي لاينجوا أحد من عذاب الآخرة إلا بها. ونستطيع أن نفهم هذا الموقف من الإمام الهادي عليه السلام في كلامه مع أبي هاشم الجعفري. قال أبو هاشم الجعفري: « أَصَابَتْنِي ضِيقَةٌ شَدِيدَةٌ فَصِرْتُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عليه السلام فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لِي فَلَمَّا جَلَسْتُ قَالَ يَا أَبَا هَاشِمٍ أَيُّ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكَ تُرِيدُ أَنْ تُؤَدِّيَ شُكْرَهَا قَالَ أَبُو هَاشِمٍ فَوَجَمْتُ (14)، فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ لَهُ فَابْتَدَأَنِي عليه السلام فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ رَزَقَكَ الْإِيمَانَ فَحَرَّمَ بِهِ بَدَنَكَ عَلَى النَّارِ، وَ رَزَقَكَ الْعَافِيَةَ فَأَعَانَكَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَ رَزَقَكَ الْقُنُوعَ فَصَانَكَ عَنِ التَّبَذُّلِ. يَا أَبَا هَاشِمٍ إِنَّمَا ابْتَدَأْتُكَ بِهَذَا لِأَنِّي ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَشْكُوَ لِي مَنْ فَعَلَ بِكَ هَذَا قَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَخُذْهَا » (15). فيظهر من هذه الرواية أن أبا هاشم كان يريد أن يشكو من الله الفقر الفاقة. ولهذا سبقه الإمام عليه السلام وأشار إلى بعض النعم التي أنعم الله تعالى عليه حتى يفهم أنه لايجوز له الشكوى من فعل الله تعالى.
وكان يهتمّ عليه السلام بهداية عائلته كذلك. فقد روى الكليني: « کان المتوکل يقول: ويحکم! قد أعياني أمر ابن الرضا، أبى أن يشرب معي أو ينادمني أو أجد منه فرصة في هذا، فقالوا له: فان لم تجد منه فهذا أخوه موسی، قصاف عزاف، يأکل ويشرب ويتعشق. قال: ابعثوا اليه، فجيئوا به حتی نموه به علی الناس، ونقول: ابن الرضا، فکتب إليه وأشخص مکرما وتلقاه جميع بني هاشم والقواد والناس، علی أنه إذا وافی أقطعه قطيعة، وبني له فيها وحول الخمارين والقيان إليه. فلما وافی موسی تلقاه أبوالحسن في قنطرة وصيف، وهو موضع تتلقی فيه القادمون، فسلم عليه ووفاه حقه. ثم قال له: إن هذا الرجل قد أحضرک ليهتکك، ويضع منك، فلا تقر له أنك شربت نبيذا قط. فقال له موسی: فإذا کان دعاني لهذا فما حيلتي؟ قال فلا تضع من قدرك، ولا تفعل، فانما أراد هتکك » (16).
1) مفاتيح الجنان (للشيخ عباس القمي) / المجلد: 1 / الصفحة: 653 / الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلامية – طهران / الطبعة: 1.
2) سورة الإسراء / الآية: 23 و 24.
3) دلائل الإمامة (لمحمد بن جرير الطبري) / المجلد: 1 / الصفحة: 410 / الناشر: قسم الدراسات الإسلامية مؤسسة البعثة – قم / الطبعة: 1.
4) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 78 / الصفحة: 369 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 2.
5) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 78 / الصفحة: 369 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 2.
6) إثبات الوصية (لعلي بن الحسين المسعودي) / المجلد: 1 / الصفحة: 244 / الناشر: انصاريان – قم / الطبعة: 1.
7) سورة آل عمران / الآية: 92.
8) الأمالي (للشيخ الصدوق) / المجلد: 1 / الصفحة: 276 / الناشر: قسم الدراسات الإسلامية مؤسسة البعثة – قم / الطبعة: 1.
9) تحف العقول (لإبن شعبة الحراني) / المجلد: 1 / الصفحة: 483 / الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي – قم / الطبعة: 2.
10) الكافي (للشيخ محمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: 1 / الصفحة: 498 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: 4.
11) مناقب آل أبي طالب (لإبن شهر آشوب) / المجلد: 3 / الصفحة: 512 / الناشر: المكتبة الحيدرية – النجف الأشرف / الطبعة: 1.
12) مناقب آل أبي طالب (لإبن شهر آشوب) / المجلد: 3 / الصفحة: 512 / الناشر: المكتبة الحيدرية – النجف الأشرف / الطبعة: 1.
13) مناقب آل أبي طالب (لإبن شهر آشوب) / المجلد: 3 / الصفحة: 512 / الناشر: المكتبة الحيدرية – النجف الأشرف / الطبعة: 1.
14) أي سكتت وأطرقت رأسى.
15) من لا يحضره الفقيه (للشيخ الصدوق) / المجلد: 4 / الصفحة: 401 / الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي – قم / الطبعة: 2.
16) الكافي (للشيخ محمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: 1 / الصفحة: 502 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: 4.
التعلیقات