يوم المباهلة يوم تحكيم الروابط العائلية
السيد حسين الهاشمي
منذ 6 ساعاتفي تاريخ الإسلام، توجد أحداث بارزة تحمل في طياتها معاني عميقة ودروساً قيمة تتعلق بالعلاقات الإنسانية وأهمية الروابط الأسرية. من بين هذه الأحداث، يبرز يوم المباهلة كأحد أبرز المحطات التي تجسد معاني الحق والعدل والتضامن العائلي. يعود هذا اليوم إلى السنة التاسعة للهجرة، حينما واجه النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران في حوار حول العقيدة والإيمان.
يوم المباهلة
يوم الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة هو ذكرى واقعة المباهلة. هذه الواقعة العظيمة إضافة إلى إثبات علو المقام لأهل بيت العصمة عليهم السلام عند الله تبارك وتعالى وعند النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، يثبت لنا أهمية العائلة وأهمية الإكتراث بها في جميع الحالات ونفهم منه أن العائلة هي الركن الأساسي في كلّ مجتمع ويجب على كلّ شخص أن يجعل العائلة محوراً أساسياً في جميع الوقايع والحالات.
إنّ يوم المباهلة لا يمثل مجرد حدث تاريخي، بل هو رمز لتلاحم العائلات وتضامنها في سبيل الحق. إذ يتضح من خلال هذه الواقعة كيف يمكن للعائلة أن تكون دعماً قوياً للأفراد في مسيرتهم نحو الإيمان والصدق. من خلال استعراض تفاصيل هذا اليوم، سنسلط الضوء على أهمية الروابط العائلية وكيف يمكن أن تسهم في بناء مجتمع متماسك قادر على مواجهة التحديات.
المعنى اللغوي للمباهلة
يقول آية الله السيد علي الميلاني: « المباهلة : من البهل ، والبهل في اللغة بمعنى تخلية الشيء وتركه غير مراعى. وعندما تراجعون القاموس وتاج العروس وغيرهما من الكتب اللغوية ترونهم يقولون في معنى البهل أنّه اللعن. لكنّي رأيت عبارة الراغب أدق ، فالبهل هو ترك الشيء غير مراعى ، كأنْ تترك الحيوان مثلاً من غير أن تشدّه ، من غير أن تربطه بمكان ، تتركه غير مراعى ، تخلّيه وحاله وطبعه » (1).
واقعة المباهلة
قال الله تبارك وتعالى في كتابه الحكيم: ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ (2).
هذه الآية هي الآية التي تنقل لنا واقعة المباهلة باختصار وهي الآية المعروفة بآية المباهلة.
ينقل الشيخ الطبرسي رحمة الله عليه تفصيل هذه الواقعة العظيمة في ذيل هذه الآية الشريفة. حيث يقول: « نزلت الآيات في وفد نجران: العاقب والسيد ومن معهما، قالوا لرسول الله: هل رأيت ولدا من غير ذكر؟ فنزل: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) الآيات. فقرأها عليهم. فلما دعاهم رسول الله إلى المباهلة، استنظروه إلى صبيحة غد من يومهم ذلك. فلما رجعوا إلى رجالهم، قال لهم الأسقف: انظروا محمدا في غد، فإن غدا بولده وأهله، فاحذروا مباهلته. وإن غدا بأصحابه فباهلوه، فإنه على غير شيء. فلما كان الغد جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم آخذا بيده علي بن أبي طالب عليه السلام، والحسن عليه السلام ، والحسين عليه السلام بين يديه يمشيان، وفاطمة عليها السلام تمشي خلفه، وخرج النصارى يقدمهم أسقفهم. فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أقبل بمن معه سأل عنهم، فقيل له: هذا ابن عمه، وزوج ابنته، وأحب الخلق إليه. وهذان ابنا بنته من علي عليه السلام . وهذه الجارية بنته فاطمة، أعز الناس عليه، وأقربهم إلى قلبه. وتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجثا على ركبتيه. قال أبو حارثة الأسقف: جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة فكع ولم يقدم على المباهلة. فقال السيد: أدن يا أبا حارثة للمباهلة. فقال: لا. إنّي لأرى رجلا جريئا على المباهلة و أنا أخاف أن يكون صادقا و لئن كان صادقا لم يحل و اللّه علينا حول و في الدنيا نصراني يطعم الماء. فقال الأسقف: يا أبا القاسم إنا لا نباهلك و لكن نصالحك فصالحنا على ما ينهض به، فصالحهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم على الفي حلة من حلل الاواقي قسمة كلّ حلة أربعون درهما فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك أو على عارية ثلاثين درعا و ثلاثين رمى و ثلاثين فرسا إن كان باليمن كيد، و رسول اللّه ضامن حتّى يؤديها و كتب لهم بذلك كتابا. و روي أن الأسقف قال لهم: إنّي لأرى وجوها لو سألوا اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لازاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا و لا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. وقال النبي: والذي نفسي بيده لو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم الوادي عليهم نارا، ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا كلهم! قالوا: فلما رجع وفد نجران لم يلبث السيد والعاقب إلا يسيرا حتى رجعا إلى النبي، وأهدى العاقب له حلة وعصا وقدحا ونعلين، وأسلما. » (3).
تقدس العائلة في جميع الأديان الإلهية
يوجد في واقعة المباهلة نكتة حائزة للأهمية وهي أهمية العائلة في جميع المجتمعات والأديان والمذاهب. حيث نرى أن الأسقف يقول للوفد: « انظروا محمدا في غد، فإن غدا بولده وأهله، فاحذروا مباهلته. وإن غدا بأصحابه فباهلوه، فإنه على غير شيء.« (4). فالأسقف كان يعلم إن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان على حقّ وكان داعيا من جانب الله تبارك وتعالى، يعرف أهمية العائلة وعظمتها عند الله تبارك وتعالى ولذلك سيأتي مع أولاده وعائلته بدلا من أصحابه وأنصاره ويترك شوكة المشي مع الأصحاب والغوغاء الموجود فيها ويأتي بعائلته الشريفة إلى مقابلة الأعداء.
والنكتة الأخرى التي نفهمها من آية المباهلة هي مكانة أميرالمؤمنين عليه السلام عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث عبّر عنه عليه السلام بأنفسنا. فأميرالمؤمنين عليه السلام نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا أيضا من النكات المهمة في قدسية العائلة عند الإسلام.
حضور النساء في المواقع الضرورية
رغم أن الروايات الشريفة كثيرة حول عدم حضور النساء المؤمنات عند الرجال الأجانب إلا إننا يمكننا أن نفهم شيئا مهما من واقعة المباهلة وهو أن حضور النساء في المواقع الحساسة والضرورية، من الأمور المطلوبة لدى الله سبحانه وتعالى. حيث نرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي بإبنته فاطمة الزهراء سلام الله عليها لهذه الواقعة المهمة. لأن المباهلة كانت من أبرز الوقايع التي فيها يظهر حقيقة الإسلام. فالنبي الأعظم في هذه الحالة وفي مقابل أعين المسلمين يأتي مع إبنته فاطمة الزهراء سلام الله عليها لإثبات حقانية الإسلام. والأسقف يقول في حقها: « وهذه الجارية بنته فاطمة، أعز الناس عليه، وأقربهم إلى قلبه » (5).
تظهر أهمية مصاحبة فاطمة الزهراء مع النبي الأكرم عليهما السلام عندما نشاهد الروايات المروية عنها حول النساء. فقد روي عنها عليها السلام: « سأل رسول الله أصحابه عن المرأة ماهي ، قالوا : عورة ، قال : فمتى تكون أدنى من ربها؟ فلم يدروا ، فلما سمعت فاطمة ذلك قالت: أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها ، فقال رسول الله: إن فاطمة بضعة مني » (6).
دروس من المباهلة لتحسين الأسر والعوائل
يمكن لأيّ شخص أن يفهم من واقعة المباهلة دروسا مهمة لتحسين الأسر والعوائل.
اتحاد وتضامن أفراد الأسرة
تظهر واقعة المباهلة اتحاد وتضامن عائلة النبي صلى الله عليه وآله في مواجهة التحديات الكبيرة. في هذا اليوم، جاء النبي صلى الله عليه وآله مع أسرته، بما في ذلك ابنته فاطمة سلام الله عليها وزوجها أميرالمؤمنين عليه السلام، ليظهر أن الأسرة يجب أن تكون متحدة ومتضامنة في مواجهة الصعوبات.
تربية جيل صالح
تربية جيل صالح تعني خلق بيئة أسرية صحية وذات معنى تُنقل فيها القيم والمبادئ إلى الأبناء. يجب على الآباء أن يُعلموا أبناءهم كيفية التصرف بالإيمان والصدق، وأن يعملوا وفقًا للقيم الإنسانية والإسلامية. سيساعد ذلك في إنشاء جيل صحي وفعال في المجتمع.
علاقة الصدق وراء الحقيقة بسلام الأسرة
الصدق والسعي وراء الحقيقة هما درسان آخران مهمان يمكن تعلمهما من واقعة المباهلة. في هذه الواقعة، تحدث النبي صلى الله عليه وآله بصدق وشفافية عن عقائده، مما يُظهر أهمية السعي وراء الحقيقة في العلاقات الأسرية. تساعد وجود الصدق في الأسرة على خلق الثقة والهدوء. عندما يكون لدى أفراد الأسرة صدق مع بعضهم البعض، سيكون لديهم شعور أكبر بالأمان والهدوء. سيساهم ذلك في تقليل التوترات والنزاعات، ويوفر بيئة مناسبة للحوار والتفاعلات الإيجابية.
هذه بعض النقاط التي لامسناها من واقعة المباهلة، وهي حادثة غنية بالمعاني والعبر. أكيد أن لكل منكم نظرة خاصة أو فكرة خطرت في باله وهو يتأمل هذا الحدث العظيم، فشاركونا ما تجلى لكم، لعلنا ننتفع من تأملاتكم ونكمل الصورة معًا.
1) آية المباهلة (للسيد علي الميلاني) / المجلد: 1 / الصفحة: 19 / الناشر: مركز الأبحاث العقائدية – قم / الطبعة: 1.
2) سورة آل عمران / الآية: 61.
3) مجمع البيان في تفسير القرآن (للشيخ الطبرسي) / المجلد: 2 / الصفحة: 309 / الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت / الطبعة: 1.
4) مجمع البيان في تفسير القرآن (للشيخ الطبرسي) / المجلد: 2 / الصفحة: 309 / الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت / الطبعة: 1.
5) مجمع البيان في تفسير القرآن (للشيخ الطبرسي) / المجلد: 2 / الصفحة: 309 / الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت / الطبعة: 1.
6) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 43 / الصفحة: 92 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 2.
التعلیقات