كرامة كبار السنّ في الإسلام
السيد حسين الهاشمي
منذ 7 ساعاتفي اليوم العالمي للمسنّين، الموافق للأوّل من أكتوبر، تتوجّه أنظار العالم إلى فئةٍ عزيزةٍ لطالما كانت عماد المجتمعات وذاكرة الأجيال؛ إنّهم كبار السنّ، أولئك الذين شابت لحاهم وهم يحملون على أكتافهم ثقل الحياة وخبراتها، وقدّموا من أعمارهم زهرة السنين في خدمة أسرهم وأوطانهم. ومع ذلك، فإنّ التقدّم في العمر ليس مجرّد مرحلة زمنية، بل هو مقامٌ من مقامات الكرامة الإنسانية التي أكّد الإسلام على صونها وتعظيمها.
لقد جاء الإسلام بمنظومةٍ متكاملة تحفظ للإنسان قيمته في كلّ مراحل عمره، وخصّ مرحلة الشيخوخة بمزيدٍ من التبجيل والاحترام، لما فيها من حكمة وتجربة وفضلٍ في الطاعة والصبر. فالكبير في الإسلام ليس عبئاً يُحمَل، بل هو بركةٌ تُغتنم، ودعاؤه حصنٌ للبيت، ووجوده نورٌ يُضيء درب الأبناء والأحفاد.
إنّ الاحتفال بهذا اليوم في المجتمع الإسلامي ليس مجرّد مناسبة اجتماعية، بل هو تذكيرٌ بواجبٍ شرعيّ وإنسانيّ عظيم: أن نحفظ للمسنّ مكانته، ونحسن إليه قولاً وفعلاً، ونمنحه ما يستحقّه من رعايةٍ ودفءٍ واحترام. فكرامة الكبير ليست منّةً منّا عليه، بل هي حقٌّ فرضه الله علينا حيث ذكر الله الوالدين وخصّ حالة الشيخوخة والكبر لهما بالذكر. فقد قال تعالى: ﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ (1). ومن هنا كان من المحتم علينا ان نكتب مقالة حول كبار السنّ وكرامتهم ومنزلتهم في الشريعة الإسلامية.
مكانة المسنين في المجتمع الإسلامي
يُعدّ المسنّ في المجتمع مرآةً للزمن، يحمل في تجاعيد وجهه حكايات العطاء والتجارب، وفي نظراته حكمة السنين التي لا تُقاس بعمرٍ أو مال. غير أنّ القيم تختلف باختلاف الحضارات؛ ففي حين تُقصي بعض المجتمعات المعاصرة كبارها إلى الهامش بحجّة العجز، فإنّ الإسلام رفع شأنهم وجعل توقيرهم عبادةً وقربةً إلى الله تعالى. فالمسنّ في التصوّر الإسلامي ليس عبئاً على الأُسرة، بل هو بركةٌ فيها، ودعاؤه حارسٌ لها، وخبرته مدرسةٌ تربّي أجيالها. إنّ الحديث عن مكانة المسنّين في المجتمع الإسلامي ليس حديثاً عن فئةٍ عمرية فحسب، بل هو حديثٌ عن قيم الرحمة، والوفاء، والاعتراف بالجميل التي يقوم عليها البناء الإسلامي في أسمى صوره الإنسانية. فقد قال الإمام الصادق عليه السلام: « لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا وَ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا » (2). وأيضا قال عليه السلام: « عَظِّمُوا كِبَارَكُمْ وَ صِلُوا أَرْحَامَكُمْ وَ لَيْسَ تَصِلُونَهُمْ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ كَفِّ الْأَذَى عَنْهُمْ » (3).
في التصوّر الإسلامي، وجود المسنّين في الأسرة والمجتمع ليس عبئاً اقتصاديّاً ولا تحدّياً اجتماعياً، بل هو مصدر بركةٍ وخير. فبركة البيت في وجود الوالدين وبركة المجتمع في حكمائها وأصحاب التجربة الطويلة. إنّ كبار السنّ يمتلكون من رصيد الحياة ما يجعلهم أقدر على الإرشاد، وأعمق في النظر، وأكثر رحمةً في الحكم على الناس. لذا قال أميرالمؤمنين عليه السلام: « وقار الشّيب أحبّ إلىّ من نضارة الشّباب » (4). وهذه الرواية لاتعني عدم الاعتناء بالشباب. بل معناها أنّه ينبغي للناس الاستفادة من تجربة الشايب والاستعانة منها في طاعة الله تعالى.
الرعاية الاجتماعية للمسنين وآثارها التربوية
الإسلام لا يكتفي بالوصايا الأخلاقية، بل يضع نظاماً متكاملاً للرعاية يشمل الأسرة والدولة والمجتمع. الأسرة هي الركيزة الأولى في رعاية المسنّين، فخدمتهم في كبرهم وفاءٌ لما قدّموه في شبابهم. المجتمع مطالبٌ بتهيئة بيئةٍ تحفظ لهم كرامتهم: من مراكز رعاية لائقة، إلى مشاركتهم في الحياة العامة بما يليق بخبراتهم. الدولة مسؤولة شرعاً عن ضمان حاجاتهم الأساسية وصون حقوقهم، فالإسلام يرى أنّ كرامة الإنسان لا تزول بضعف الجسد أو تقدّم العمر.
ومن هنا يتجلّى روح التربية الإسلامية في ضمن احترام المسنين. فتربية الأجيال على احترام الكبار تغرس في النفوس روح الانتماء والرحمة والتواضع. حين يرى الطفل والديه يُحسنان إلى جدّه أو جدّته، يتعلّم الوفاء من السلوك لا من القول. إنّ مجتمعاً يكرّم كبار السنّ هو مجتمعٌ لا ينسى جذوره، ولا يفرّط في ذاكرته التاريخية، ولا يسمح بأن يصبح الإنسان مجرّد أداةٍ إنتاجيةٍ يُستغنى عنها مع مرور الزمن.
تكريم الكبار في ضوء القرآن الكريم
من أسمى القيم التي دعا إليها الإسلام وأرسى دعائمها في المجتمع الإنساني: قيمة التوقير والإكرام، ولا سيّما إكرام الكبار الذين بلغوا من العمر مرحلة الضعف والشيخوخة، فصاروا أحوج إلى الرحمة والبرّ والرعاية. وقد أولى القرآن الكريم هذه الفئة العزيزة عنايةً خاصة، فرفع مكانتهم في المجتمع.
فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ (5). وهذه الكرامة تشمل الكبير والصغير، الغنيّ والفقير، القويّ والضعيف، فهي كرامة إنسانيّة أصيلة منحها الله تعالى لكلّ إنسانٍ لمجرّد كونه من بني آدم. ومن ثمّ، فإنّ إكرام كبار السنّ ليس منّةً من أحد، بل هو واجبٌ نابع من إيمان الإنسان بكرامة الخَلق الإلهيّ.
يُصوّر القرآن الشيخوخة تصويراً بديعاً مليئاً بالعظة والحنان، فيقول تعالى على لسان النبي زكريّا عليه السلام: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴾ (6). لم يعبّر النبيّ زكريّا عن الكِبَر بالشكوى أو اليأس، بل بالخشوع والتسليم والاعتراف بضعف الإنسان أمام خالقه. وفي هذا المشهد تربيةٌ للإنسان على التعاطف مع الكبار، لأنّ الضعف جزءٌ من سُنن الله في خلقه، وهو مآل كلّ حيّ.
سنّة النبيّ صلى الله عليه وآله في احترام المسنّين
في عالمٍ تتسارع فيه الحياة وتتغيّر فيه القيم، تبقى سيرة النبيّ ﷺ منارةً خالدة تذكّرنا بمعاني الرحمة والوفاء والإنسانية. ومن بين تلك المعاني الرفيعة التي أرسى دعائمها، احترام كبار السنّ وإكرامهم. وردت أحاديث كثيرة عن النبيّ ﷺ تُظهر مدى عنايته بهذه الفئة الكريمة من المجتمع. فمن الحريّ أن نذكر الروايات المروية عنه صلى الله عليه وآله وسلم حول هذا الموضوع. فقد جعل صلى الله عليه وآله وسلم، إكرام المسنين من مصاديق اجلال الله تعالى حيث قال: « مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِجْلَالُ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ » (7). وأيضا عدّ المستخفين بالمسنين في عداد المنافقين حيث قال صلى الله عليه وآله: « ثلاثة لا يستخف بحقهم إلا منافق بين النفاق: ذو الشيبة في الإسلام، والإمام المقسط، ومعلم الخير » (8). وأيضا روي عنه صلى الله عليه وآله: « ما أكرم شابّ شيخا لسنّه إلاّ قيّض اللّٰه عند سنّه من يكرمه » (9). وأيضا روى الإمام الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله رواية حول أحدى فوائد إكرام الكبير حيث قال: « مَنْ وَقَّرَ ذَا شَيْبَةٍ فِي الْإِسْلَامِ آمَنَهُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ مِنْ فَزَعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ » (10).
حقوق كبار السنّ في الإسلام
قد اتضح من خلال الروايات التي ذكرناها في طياة البحث أنّ أكبر حقوق المسنين هي إكرامهم وإجلالهم. وقد قال أميرالمؤمنين عليه السلام أيضا: « يكرم العالم بعلمه و الكبير لسنّه و ذو المعروف لمعروفه » (11). وأيضا من الحقوق المهمة لهم، مراعاة حالهم. فقد ورد أنه: « جَاءَ شَيْخٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي حَاجَةٍ فَأَبْطَئُوا عَنِ الشَّيْخِ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ فَقَالَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا » (12). ومن الجميل أن نعرف إن الله تعالى أيضا راعى حال كبار السنّ في بعض عباداتهم حيث روي: « ان المسلم إذا ضعف من الكبر يأمر الله الملك أن يكتب له في حاله تلك ما كان يعمل وهو شاب نشيط مجتمع ، ومثل ذلك إذا مرض وكل الله ملكا يكتب له في سقمه ما كان يعمل من الخير في صحته » (13).
هذه كانت جملة من الآيات والروايات والأمور المرتبطة بكبار السنّ في الإسلام. أتمنى أن نبني معا مجتمعا يتمّ التعامل فيه مع كبار السنّ بلطف وإكرام.
1) سورة الإسراء / الآية: 23.
2) الكافي (لمحمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: 2 / الصفحة: 165 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: 4.
3) الكافي (لمحمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: 2 / الصفحة: 165 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: 4.
4) غرر الحكم ودرر الكلم (لعبد الواحد التميمي الآمدي) / المجلد: 1 / الصفحة: 728 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – قم / الطبعة: 2.
5) سورة الإسراء / الآية: 70.
6) سورة مريم / الآية: 4.
7) الكافي (لمحمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: 2 / الصفحة: 165 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: 4.
8) ميزان الحكمة (للشيخ محمد الري شهري) / المجلد: 3 / الصفحة: 2084 / الناشر: نشر دار الحديث – قم / الطبعة: 1.
9) نهج الفصاحة (لأبي القاسم باينده) / المجلد: 1 / الصفحة: 687 / الناشر: نشر دنيا دانش – قم / الطبعة: 1.
10) الكافي (لمحمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: 2 / الصفحة: 658 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: 4.
11) غرر الحكم ودرر الكلم (لعبد الواحد التميمي الآمدي) / المجلد: 1 / الصفحة: 809 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – قم / الطبعة: 2.
12) مجموعة ورام (لورّام بن أبي فراس) / المجلد: 1 / الصفحة: 34 / الناشر: مكتبة الفقيه – قم / الطبعة: 1.
13) الدعوات (لقطب الدين الراوندي) / المجلد: 1 / الصفحة: 163 / الناشر: مدرسة الإمام المهدي – قم / الطبعة: 1.
التعلیقات