مريم عليها السلام في القرآن الكريم
نساء خالدات
منذ 4 ساعاتحين نقرأ سيرة مريم العذراء عليها السلام، لا نقرأ قصةً من الماضي، بل مرآةً تُظهر لنا كيف تكون المرأة المؤمنة في كلِّ عصر. امرأةٌ اصطفاها الله لتكون مثالًا للطهر، والثقة، والتسليم المطلق لأمر الله. واليوم، ونحن نعيش في زمنٍ يموج بالفتن والضغوط، تبقى مريم رمزًا لكلِّ امرأةٍ تريد أن تحفظ قلبها لله، وأن تكون نقيّة الفكر، صادقة الإيمان، راسخة أمام الابتلاءات كما كانت هي.
اصطفاء مريم عليها السلام
لقد جعل الله تعالى السيدة مريم عليها السلام قدوةً ونموذجًا للنساء، لما تمتّعت به من صفاتٍ سامية وخصالٍ طاهرة. وإنّ دراسة جميع صفاتها تحتاج إلى بحثٍ مستقلّ، لكن يمكن الإشارة إلى بعضٍ منها بإيجاز. ومن أبرز تلك الصفات أنّها مختارةٌ من الله سبحانه وتعالى، كما جاء في قوله عزّ وجلّ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ (١).
فاصطفاء الله لها يعني أنّه فضّلها على نساء العالمين، لا في زمنها فحسب، بل في جميع الأزمنة. وأما القول بأنّ مريم كانت مفضَّلةً فقط على نساء عصرها، فقولٌ غير صحيح، لأنه مخالف لإطلاق الآية الكريمة.
إنّ تفضيل الله لمريم عليها السلام لم يكن في جميع الصفات والخصال، بل في خصوص ما خصّها الله به من المعجزة العظيمة، إذ حملت من غير زوجٍ وبنفخةٍ من روح الله، فولدت نبيًّا من أولي العزم وهو عيسى عليه السلام. وهذه الخصوصية لم تُعطَ لامرأةٍ غيرها، كما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ (٢).
وفي آيةٍ أخرى قال سبحانه: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ (٣).
فولادة مريم لعيسى عليه السلام بطريقةٍ خارقةٍ للعادة كانت علامةً إلهيةً على قدرة الله العظمى، ولذلك جعلهما الله آيةً للعالمين.كما شهد القرآن الكريم بطهارتها وعفّتها، وبيّن أنّها كانت من القانتين المطيعين لله تعالى، فجمعت بين الإيمان العميق، والطاعة الخالصة، والعفّة التامّة. ولهذا كانت مريم عليها السلام امرأةً مثاليّةً ونموذجًا ساميًا للنساء المؤمنات.
المُحدَّثة
من الصفات العظيمة التي تميّزت بها السيدة مريم عليها السلام أنّها كانت مُحدَّثةً.
والمحدَّث أو المحدَّثة في الاصطلاح هو من يَسمع صوت الملك أو المَلَكوتيّ من دون أن يراه. وقد تكلّم معها ملَك الوحي مباشرةً، فكانت تسمع خطابه وتعي رسالته، كما قال الله تعالى: ﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ (٤).
وهناك آياتٌ أخرى تدلّ بوضوح على أنّها كانت محدَّثةً، منها قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ (٥).
فهذه الآيات الكريمة تكشف أنّ الملائكة كانت تخاطبها وتُحدّثها بما أمر الله تعالى به، فكانت مريم عليها السلام تسمع نداء الغيب في قلبها، وتستجيب له بروحٍ خاشعةٍ مطمئنة. وكان ذلك إعدادًا إلهيًّا لها لتربية طفلٍ معجزةٍ لم يعرف التاريخ مثله في صفاته وطهارته.
الطاهرة
ومن أبرز صفاتها كذلك أنّها كانت مطهَّرةً من كلّ رجسٍ وذنب، كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ (٦).
والمقصود بالتطهير هنا هو عصمتها عن الذنوب والمعاصي، فهي قد جُمعت لها صفات الاصطفاء والعصمة والطهارة في آنٍ واحد. وقد قال بعض المفسّرين إنّ المقصود من تطهيرها هو كونها بَتُولًا، أي امرأة لا تحيض، وقد جعلها الله كذلك حتى لا تضطرّ إلى مغادرة بيت العبادة في أيام العادة الشهرية، لكنّ التفسير الأقرب هو أنّ طهارتها روحيةٌ ومعنوية قبل أن تكون جسدية، فهي طاهرةٌ من الذنوب، منوّرةٌ بالإيمان، مخلَصةٌ لله في كلّ لحظةٍ من حياتها.
وهكذا كانت مريم عليها السلام محدَّثةً مطهَّرةً مصطفاةً، تجسيدًا لنقاء الإيمان وصفاء الروح، ومثالًا خالدًا للمرأة المؤمنة الطاهرة عبر العصور.
الحمل من غير زوج
من أعظم خصائص السيدة مريم عليها السلام أنّ الله شرّفها بمعجزةٍ خارقةٍ للعادة، وهي الحمل والولادة من غير زوجٍ. فعندما بشّرها الله تعالى بأنّها ستنجب ولدًا، قالت متعجّبةً ومندهشةً: ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ (7).
فكانت ولادتها لعيسى عليه السلام آيةً إلهيّةً عظيمةً تُظهر قدرة الله تعالى على الخلق من غير أسبابٍ مألوفة، كما قال سبحانه في آيةٍ أخرى: ﴿ قالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ﴾ (8).
فهذه المعجزة لم تكن مجرّد حدثٍ خارقٍ للطبيعة، بل كانت رحمةً إلهيّةً للناس، ودليلًا على أنّ الله يخلق ما يشاء كيف يشاء، وأنّ إرادته فوق كلّ الأسباب.
مريم عليها السلام ورزقُها الإلهيّ
ومن الكرامات الواضحة التي خصّ الله بها مريم عليها السلام، أنّها كانت ترزق من عند الله رزقًا خاصًّا عجيبًا. فقد جعلوا لها غرفةً في بيت المقدس تعبُد الله فيها، وكان الدخول إليها يتمّ بسُلّمٍ، ولم يكن أحدٌ يدخل عليها إلاّ نبيّ الله زكريا عليه السلام، إذ كان هو القائم على شؤونها والمشرف على طعامها وشرابها.
لكنّه كان في كلّ مرّةٍ يدخل عليها يجد عندها رزقًا غير مألوف، كما قال تعالى: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ (9).
وقد جاء في تفسير الآية أنّ الرزق الذي كانت تجده مريم لم يكن من الطعام المعتاد بين الناس، بل كان رزقًا سماويًّا خارقًا، حتى إنّ زكريا عليه السلام كان يرى عندها فواكه الصيف في الشتاء، وفواكه الشتاء في الصيف. عندها أدرك زكريا عليه السلام عظمة مريم ومكانتها عند الله، وشاهد كرامةً إلهيّةً تملأ القلب يقينًا، فدفعه ذلك إلى أن يرفع يديه بالدعاء قائلاً: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ (10).
وهكذا كانت مريم عليها السلام موضعًا للكرامات والعجائب، شاهدةً على عظمة الله ورحمته، ورمزًا للطهر والإيمان الذي يُنزل البركة والرزق من السماء.
مريم عليها السلام و العون الإلهيّ
من الخصائص العظيمة لمريم عليها السلام أنّها نالت عنايةً خاصّةً من الله تعالى في أشدّ لحظات حياتها صعوبةً وألمًا. فحين اقتربت ساعة ولادتها، وكانت وحيدةً لا معين لها، ألمّ بها الخوف والاضطراب من كلام الناس وتُهَمِهم، فقالت في لحظة ضعفٍ بشريٍّ وألمٍ شديد: ﴿ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ﴾ (11).
كانت مريم تخاف من مواجهة الناس وما سيوجّهونه إليها من اتّهامات باطلة في عرضها وشرفها، وهي المرأة العفيفة الطاهرة المنحدرة من أسرةٍ معروفةٍ بالتقوى والعفّة. فجاءها التسلي والتثبيت من ابنها الوليد عيسى عليه السلام، إذ ناداها وهي لا تزال عند جذع النخلة، ليطمئن قلبها ويؤنس وحدتها، فقال تعالى:
﴿ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ (12).
كان كلام الطفل المعجزة كرامةً إلهيّةً لمريم، ودليلًا على صدقها وطهارتها. ثمّ أوصاها أن تترك الدفاع عن نفسها، وألاّ تتكلّم مع أحد، لأنّ الله سيتولّى الدفاع عنها بآيةٍ لا يستطيع أحد إنكارها، كما قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام: ﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ﴾ (13).
فهنا نرى أنّ كلّ ما فعلته مريم — من الأكل والشرب والصمت والكلام — كان بإرشادٍ من الله تعالى، ليكون سلوكها كلّه تجسيدًا للطاعة والامتثال الكامل لأمر الله.
لقد كانت لحظة الولادة وظهور المعجزة بدايةَ مرحلةٍ جديدةٍ من تكريم الله لعبدته الصالحة مريم عليها السلام.
صبر مريم عليها السلام
ومن صفاتها العظيمة صبرها وثباتها أمام الشدائد في تربية ابنها عيسى عليه السلام. فقد رُوي أنّها كانت تعمل بيديها لتؤمّن قوتها وقوت ولدها، وكانت تحمل زنبيلين: تضع عيسى عليه السلام في أحدهما، وتضع في الآخر سنابل القمح التي تجمعها من الحقول بعد الحصاد، لتطحنها وتخبز منها خبزًا بسيطًا.
كانت مريم تعمل بجهدٍ وصبرٍ وشرف، لا تشتكي ولا تتكاسل، محافظةً على أمانتها الإلهيّة، ومهيّئةً نفسها وابنها لمرحلة الرسالة والمسؤولية الكبرى التي تنتظرهما.
وهكذا تبقى مريم عليها السلام رمزًا للمرأة الصابرة المؤمنة التي تتوكّل على الله في الشدّة والرخاء، وتتحمّل الصعاب بثباتٍ ورضا، مستنيرةً بنور الإيمان والعفّة.
النتيجة
إن مريم العذراء عليها السلام ليست ذكرى تُتلى، بل منهجٌ يُحتذى. فمنها نتعلّم أن القرب من الله يرفع المرأة إلى مقام الكمال، وأن الطهارة ليست بعدًا جسديًا فقط، بل صفاءُ روحٍ وثقةٌ بربٍّ لا يُخيّب من توكّل عليه. كلُّ امرأةٍ تسير على درب مريم، إنما تكتب فصلًا جديدًا من الطهر في هذا العالم.
١. آل عمران: ٤٢
٢. الأنبياء: ٩١
٣. التحريم: ١٢
٤. آل عمران: ٤٣
٥. آل عمران: ٤٥
٦. آل عمران: 42
٧. آل عمران: ٤٧
٨. مريم: ٢١
٩. آل عمران: ٣٧
١٠. آل عمران: ٣٨
١١. مريم: ٢٣
١٢. مريم: ٢٤ و٢٥
١٣. مريم: ٢٦
١٤. النساء البارزات في القرآن والحديث والتاريخ، أحمد بهشتي، المجلد ٢، الصفحة ٢٧
التعلیقات