خربة الشام والسيدة رقية سلام الله عليها
الشيخ محمد الهنداوي
منذ 3 سنواتأنه لما قدم آل الله وآل رسول الله على يزيد في الشام أفرد لهم دارا، وكانوا مشغولين بإقامة العزاء، وأنه كان للحسين عليه السلام بنت عمرها ثلاث سنين، ومنذ استشهاد الإمام الحسين عليه السلام ما بقيت تراه، فعظم ذلك عليها، واستوحشت لأبيها، وكانت كلما طلبت أباها يقولون لها: غدا يأتي ومه (أي: كفي) ما تطلبين، إلى أن كانت ليلة من الليالي رأت أباها في المنام.
فلما انتبهت صاحت، وبكت ،وانزعجت فهجَّعوها، وقالوا: ما هذا البكاء والعويل؟ فقالت: إيتوني بوالدي وقرة عيني، وكلما هجَّعوها ازدادت حزنا وبكاءً فعظم ذلك على أهل البيت، ضجوا بالبكاء، وجددوا الأحزان، ولطموا الخدود، وحثوا على رؤوسهم التراب، ونشروا الشعور، وقام الصياح.
فسمع يزيد صيحتهم وبكاءهم، فقال: ما الخبر؟ قالوا: إنّ بنت الحسين الصغيرة رأت أباها في المنام، فانتبهت وهي تطلبه، وتبكي، وتصيح.
فلما سمع يزيد ذلك، قال: ارفعوا رأس أبيها، وضعوه بين يديها؛ لتنظر إليه، وتتسلى به، فجاؤوا بالرأس الشريف إليها مغطى بمنديل، فوُضع بين يديها، وكُشف الغطاء عنه، فقالت، ما هذا الرأس؟ قالوا: إنه رأس أبيك.
فرفعته من الطشت حاضنة له، وهي تقول: يا أبتاه! من ذا الذي خضَّبك بدمائك؟ يا أبتاه! من الذي قطع وريديك؟ يا أبتاه! من ذا الذي أيتمني على صغر سني؟ يا أبتاه! من بقي بعدك نرجوه؟ يا أبتاه! من لليتميه حتى تكبر؟ يا أبتاه! من للنساء الحاسرات؟ يا أبتاه! من للأرامل المسبيات؟ يا أبتاه! من للعيون الباكيات؟ يا أبتاه! من للضائعات الغريبات؟ يا أبتاه! من للشعور الناشرات؟ يا أبتاه! من بعدك وا خيبتاه! يا أبتاه! من بعدك وا غربتاه! يا أبتاه! ليتني كنت لك الفداء. يا أبتاه! ليتني كنت قبل هذا اليوم عمياء. يا أبتاه! ليتني وسدت الثرى، ولا أرى شيبك مخضباً بالدماء.
امصيبة رقيه اتصدع الاجبال
او من گبل المشيب اتشيب الاطفال
فوگ اليتم چتفوها بحبال
او ظلت تنوح ابدمع همال
افراگ الأبو مرّد الدلال
ثم إنها وضعت فمها على فمه الشريف، وبكت بكاء شديدا، حتى غشي عليها، فلما حركوها فإذا بها قد فارقت روحها الدنيا.
يحبل الوصل سيف البين بتك
او يليلي بالسهر والنوم بتك
على راسك هوت يحسين بتك
تشم نحرك واجت ليها المنيه
فلما رأى أهل البيت ما جرى عليها، أعلنوا بالبكاء، واستجدوا العزاء، وكل ما حضر من أهل دمشق، فلم ير في ذلك اليوم إلا باك وباكية.
الراس الولي حضنت رقيه
ابحسرات وابدمعه جريه
لمـّن لفت ليها المنيه
زينب او كل الهاشميه
ضجَّت فرد ضجه سويه
ما اشد واعظم هلرزيه
قال أرباب المقاتل: فأمر الإمام السجاد عليه السلام بغسلها، وكفنها، ودفنها في الخربة، وذكر السيد بحر العلوم عن بعض الأكابر أن أم كلثوم كان جزعها وبكاؤها ونحيبها على تلك الطلفة أشد وأبلغ من باقي العيال، فما كانت تهدأ، وتسكن طيلة تلك المدة التي قضوها في الشام.
فقالت لها العقيلة زينب: يا أخية! ما هذا الجزع والبكاء؟ كلنا أصبنا بفقد هذه الطفلة، ولم يخصك المصاب وحدك؟
فقالت لها: يا أختاه! لا تلوميني؛ كنت واقفة عشية أمس بعد العصر وإلى جنبي هذه الطفلة بباب الخربة في وقت انصراف أطفال الشام من مدارسهم إلى بيوتهم وأهاليهم، فكان بعضهم يقف بباب الخربة للتفرج علينا، ثم يذهب، فقالت لي هذه الطفلة: عمة إلى أين يذهب هؤلاء الأطفال؟ قلت لها: إلى منازلهم وأهاليهم. فقالت لي: عمه ونحن ليس لنا منزل ولا مأوى غير هذه الخربة. وأنا يا أختاه! كلما ذكرت هذا الكلام منها لم تهدأ لي زفرة، ولم تسكن لي عبرة.(١)
حگها لو بچت واتهل العيون
عليها او دوم ظل الگلب محزون
مهي ماتت ابغربه او سود المتون
اشيريد الگلب يحمل سهم سهمين
1ـ مجمع مصائب أهل البيت عليهم السلام: ج 3، ص 211 ـ 214. يراجع الإيقاد للعظيمي؛ تظلم الزهراء؛ مقتلِ الحسين لبحر العلوم.
التعلیقات