خروج الأم إلى العمل.. فائدة محتملة وتضحيات أكيدة
حقوق المرأة
منذ 16 سنة
عندما تقرر الزوجة الأم الخروج إلى العمل، فإنها تقع في حيرة لصعوبة اتخاذ مثل هذا القرار، حيث تجد نفسها بين ضغوط الرغبة الذاتية في تحقيق شخصيتها واستقلاليتها المادية، وضغوط واجباتها ومسؤولياتها والتي أثبتت التجربة أنه لا أحد آخر يستطيع القيام بها كما ينبغي. إلا أنه يجب التفكير في هذا الأمر من منطلق الترجيح بين الفوائد والأضرار القائمةوالمتوقعة. فإذا كان البيت ينقصه الكثير من الضروريات وأمكن تدبير أمر الأبناء ورعايتهم، فهنا قد يرجح قرار الخروج إلى العمل. أما إذا كان غير ذلك ولمجرد ميل شخصي للمرأة، فإن عليها أن تعلم أن أهمية تربية الإنسان ــ الأبناء ــ ترجح ما عداها من الفوائد المحتملة.
تواجه المرأة في حياتها بمجموعة هائلة من الأسئلة الصعبة التي تقف حائرة أمامها. ولعل من أكثر هذه الأسئلة صعوبة، خاصة بالنسبة للأمهات، هو هذا السؤال: هل الالتحاق بوظيفة والخروج إلى دنيا العمل أفضل لي أم البقاء بالمنزل لرعاية الأطفال؟ ويتصل هذا السؤال بالسؤال المفصلي الآخر: هل يمكنني أن أشعر بالسعادة وأنا أرى طفلي في رعاية شخص آخر معظم ساعات اليوم؟
وترغب كل أم في البقاء داخل المنزل لمتابعة أطفالها وهم ينمون وينطقون بالكلمات الأولى ويحاولون تعلم المشي. وتحس الأم بسعادة غامرة وهي تزيل البقع والأوساخ التي تعلق بملابس الأطفال وهم يمارسون ألعابهم الطفولية البريئة. وفي الوقت ذاته إذا التحقت الأم بوظيفة ترضي طموحاتها الإنسانية الفطرية وتستريح لها، فإنها سوف لن تقبل التخلي عن مسؤولية رعاية أطفالها إلا إن كانت مجبرة على ذلك.وقد تكون الأم هي الشخصية الوحيدة المؤهلة لدخول عالم العمل لتوفير المتطلبات الحياتية لأفراد عائلتها، ومع ذلك تعيش في خضم من الهواجس والأسئلة التي تتصل برعاية أفراد الأسرة في غيابها ومن سيقدم لهم تلك الرعاية، وهل ستكون تلك الرعاية بالمستوى نفسه الذي تتطلع إليه.
ومما يضيف المزيد من الصعوبة لتلك الأسئلة، ويفاقم من إحساس المرأة ــ الأم ــ بالذنب، الآراء المتضاربة حول عمل المرأة. فهناك مجموعة كبيرة من الآراء التي تذهب لتأكيد الآثار السلبية الفادحة لبقاء المرأة داخل البيت وهي تشرف على رعاية أطفالها. وتمضي هذه الدراسات لتقول إن رعاية الأمهات لأطفالهن طوال ساعات اليوم تضعف من علاقتهن بالأطفال وتزيد من عدوانيتهم. إلا أن هناك من يؤكد العكس تماما. وكم سمعنا في الفترة الأخيرة عن أعمال غير إنسانية تقوم بها المربيات داخل المنازل وفي غياب الأمهات. وتعيش الأمهات غير العاملات مأزقا آخر فريدا في نوعه هو عدم الجرأة على اتخاذ القرار. وقد يندمن على اعتمادهن الكامل على الزوج وعدم قدرتهن على الإسهام في زيادة دخل العائلة، ومعظمهن يشتكي من الوحدة والعزلة، والتوق إلى الحوافز والمكاسب والإنجازات الإبداعية والاجتماعية والمالية التي تقدمها الوظيفة والخروج من المنزل.
والمشكلة الحقيقية التي تواجه المرأة إن كانت عاملة أم غير عاملة هي التفكير في خيارها مرات عدة في اليوم الواحد. ولعل من حسن حظهن أن قرار الخروج إلى العمل أو البقاء في المنزل هو من القرارات القليلة التي لا يمكن النكوص عليها أو التخلي عنها أو عكسها. وإن قررت إحدى الأمهات الالتحاق بوظيفة فقد تنتظر حتى يشب الأطفال عن الطوق، وإن كان لابد لها من الالتحاق بوظيفة خلال المراحل السنية الأولى لأطفالها، فعليها أن تكيف أوضاعها العائلية وتوازن بين مسؤولياتها العملية والعائلية، أو تبحث عن بدائل أخرى مثل تقاسم العمل مع موظف آخر أو العمل خلال ساعات مفتوحة، بمعنى الالتحاق بوظيفة لا تتطلب البقاء خارج المنزل طوال اليوم.
وتبقى حقيقة واحدة لا يمكن إغفالها، وهي عدم وجود أية مميزات واضحة لأي خيار من تلك الخيارات. فالأمهات العاملات يشعرن بالنقص وعقدة الذنب من عدم إعداد كعكة عيد ميلاد الطفل أو اصطحاب الابنة لحضور النشاطات المدرسية، بينما تشعر الأمهات غير العاملات بالعجز وقلة الحيلة والعزلة مقارنة مع الأمهات اللائي شققن طريقهن في دنيا العمل. ومثل القرارات العائلية الأخرى، فإن قرار الالتحاق بوظيفة أم البقاء بالمنزل هو قرار خاص للغاية. ولهذا يتعين النظر في جميع جوانب هذا الموضوع الشائك. ومن العناصر المهمة التي تتصل بهذا القرار حقيقة أن الطفل يحتاج إلى الرعاية والدفء والحنان، وتلك مكونات ضرورية لنموه الصحي السليم، ولأنه لا يتوقع من أي إنسان آخر أن يوفر هذه المكونات. فالمربيات قد يحضن الطفل ويهدئنه ويطمئنه، إلا أنهن لا يحملن العواطف نفسها التي تحملها الأم لطفلها.
وبالإضافة إلى ذلك نرى أنه في بعض دور الحضانة تشرف حاضنة واحدة على مجموعة كبيرة من الأطفال، وإذا نظرنا إلى الوقت الذي تستغرقه الحاضنة في رعاية كل واحد منهم نكتشف أن الوقت الذي تقضيه مع الطفل الواحد ضئيل للغاية، والطفل يحتاج لاستثمار أكبر قدر من الوقت في رعايته وتوفير العناية له. أما إذا كانت الحاضنة تشرف على رعاية أطفال كبار في السن نسبيا أو في المراحل الأولى لتعلم المشي، فإن الوقت الذي تقضيه مع كل واحد منهم يكون أقل من ذلك الذي تمضيه في رعاية الأطفال صغار السن. وقد تتجاهل الحاضنة طلبات بعض الأطفال، لأنها لا تستطيع الاستجابة لمطالب هذه المجموعة الكبيرة منهم وبالقدر نفسه، كما قد تتجاهل الأسئلة التي يطرحونها والتي تعتبر من الأدوات الضرورية لتعلم أبجديات الحياة. أما إذا كان الطفل يعيش في رعاية أمه فإنها سوف تلبي كل مطالبه وتجيب عن معظم الأسئلة التي يطرحها. ويتعين على الأم أن تدرك أن رعاية الأطفال لا تعني التواجد بينهم والجلوس معهم فقط، وإلا تحول دورها إلى مجرد جليسة للأطفال. وأن دور المرأة كأم هو نشاط مهم يستمر مدى الحياة.
وتتعلم الأم الكثير من الدور الذي تؤديه وتطور من قدراتها ومهاراتها التربوية. والأم مواجهة بمجموعة كبيرة من المشكلات والتحديات الضخام، ويتجاوز دورها كأم الدور الذي تقوم به كموظفة. وإذا نظرنا إلى الحياة الإنسانية لوجدنا أن أهمية تربية الإنسان تتجاوز في حجمها أهمية جميع الجوانب الأخرى. والتربية هي نقل الأفكار الإيجابية في المجتمع إلى الطفل وتشجيع غرس القيم السمحاء. وهناك من يمضى إلى أبعد من ذلك ليقول إن الكذبة الكبرى التي تصدقها الأمهات هي أن النجاح والإنجاز لا يمكن أن يتحققا إلا بالخروج للعمل. وبصرف النظر عن ذلك فإن المرأة غير العاملة تواجه واقعا اجتماعيا وثقافيا يؤكد ضرورة عمل المرأة، ويصور هذا الواقع المرأة العاملة كإنسان أكثر قدرة وأكبر قيمة لأنها منتجة وغير خاملة. ومع ذلك على الأم التي لا تتحمل البقاء في بيتها لرعاية أطفالها أن تمعن التفكير في التكلفة الحقيقية لذهابها إلى العمل، مثل تكلفة وقود السيارة والملابس والوجبات وأجر المربية أو دار الحضانة وفناجين القهوة والشاي والمرطبات، لتحدد على ضوء هذه العملية المبلغ الحقيقي الذي تسهم به في ميزانية العائلة. هناك عدد كبير من الأسئلة التي لابد من الإجابة عنها، مثل: هل يوظف الأجر في تمويل المشتريات الضرورية للعائلة، أم يستثمر في شراء سيارة جديدة أو منزل أكبر مساحة؟
وهناك من يدعو الأمهات لاستثمار وقتهن في أداء واجبات تظل باقية مدى الحياة، ويكون لها مردود إيجابي على المدى البعيد. ويقول هؤلاء إن المرأة التي تهجر وظيفتها لكي تتفرغ لرعاية الأطفال، تغيب خلال فترة وجيزة من أذهان زملاء العمل وتتحول إلى مجرد ذكرى منسية. ولكن الأطفال سيكونون دائما في البال لأنهم الدليل العملي والإثبات الوحيد للعمل المرهق والجهد الكبير الذي تقوم به الأم من أجل رعايتهم. ولكل ذلك فإن هؤلاء يؤكدون على ضرورة بقاء الأم في البيت،
وعدم اللجوء إلى أية مناورات، حتى وإن كانت ذكية لإيجاد التوازن المستحيل بين البيت والعمل. وهناك وجهة نظر تتعارض مع دعوة الأم للبقاء في المنزل، وتنطلق وجهة النظر هذه من الأفكار السلبية التي يروج لها البعض حول عمل المرأة. ومن هذه الأفكار تلك التي تقول إن الأطفال سيتحولون إلى وحوش كاسرة لا يستطيعون التكيف مع أي إنسان، وسيفقدون الثقة في الآخرين نتيجة لأن أمهم قد هجرتهم. ومن الأفكار السلبية الأخرى تلك التي تدعي أن الأطفال سيكرهون ويرفضون الأمهات العاملات. ومن الجانب الآخر فإن الأم العاملة سوف تشعر بالذنب وعدم التماسك وتتأرجح ما بين سعادتها الشخصية وسعادة الأطفال. تلك هي أكثر الأفكار شيوعاً حول المرأة العاملة والتي يعتقد مروجوها أنها تستند إلى حقائق ملموسة.
وتقول وجهة النظر المعارضة إنه وعلى الرغم من ملايين الدراسات والأبحاث حول عمل المرأة خلال السنوات الماضية، إلا أنه لا توجد دراسة واحدة تؤكد أن الأم المثالية هي تلك التي لا تعمل، إذ لا توجد أية علاقة بين عمل الأم وكونها أما جيدة. وعندما تناولت دراسات عديدة مستويات ذكاء الأطفال وسلوكياتهم في المدارس والمنازل وأوضاعهم العاطفية لم تشر إلى أية فرق بين الأطفال الذين تعمل أمهاتهم وأولئك الذين لا تعمل أمهاتهم. وذلك لسبب بسيط للغاية، وهو أن العمل في حد ذاته لا يؤثر في الكيفية التي تتعامل بها الأمهات العاملات مع الأطفال. وكيفية أسلوب التعامل مع الأطفال هي المحك، وليس العمل. وفي نهاية المطاف فإن الطفل سيشعر بالسعادة إن أحس أن أمه سعيدة. وقد أكدت الدراسات أن ما يهم بالفعل هو ما يطلق عليه خبراء التربية "حساسية الأمومة"، التي يتم قياسها من خلال التفاعلات بين الأم والطفل، مثل الكيفية التي تصغي بها الأم لطفلها وتستجيب بها لمطالبه وغيرها. وأوضحت الدراسات أن مستوى تعليم الأم ومستوى دخل العائلة يعتبران من المؤشرات التي تدل على سعادة الطفل واستقراره النفسي، ذلك لأن الأم المتعلمة تستخدم عبارات سهلة ولائقة عندما تتحدث مع طفلها وتهيىء له بيئة هادئة. وأشارت إلى أن الفقر هو أكثر العوامل التي تعرض الأطفال للخطر، والفقر يعني عدم الاستجابة للعديد من الطلبات، وليس الغذاء والكساء والراحة فقط.
إلا أن هذا لا يعني أن الاستكانة والعيش في بيئة فقيرة أو وسط عائلي ينقص أفرادها التعليم تؤدي إلى عدم تربية أطفال أصحاء وأذكياء ومستقرين عاطفيا.وهكذا نتوصل إلى أن الدراسات والأبحاث لا تدعم الأفكار السلبية والمخيفة في آن حول الأطفال الذين تعمل أمهاتهم، ولكن الأمر يختلف إذا لم يجد الطفل العناية والرعاية التي يحتاجها. إلا أن ذلك لا يعني أن تلتحق الأم بوظيفة ما وتترك أطفالها في رعاية أي كان. وإن لم تكن الأم راضية عن وظيفتها أو تمتعض من الذهاب إلى المكتب صباح كل يوم، فإن ذلك سيضر بها وبأطفالها. وقد تكون المشكلة هنا هي أننا نطرح الأسئلة الخطأ، والسؤال يجب ألا يكون: هل عمل الأم يضر بالأطفال أم يفيدهم؟ لأن كل الدراسات لم تؤكد أن عمل الأم يضر بأطفالها. والسؤال يجب أن يكون: أي نوع من العمل؟ أي نمط من الرعاية؟ وما شعور الأم تجاه عملها؟ إن معظم النساء يعملن، والبعض منهن لا تكون لديه الرغبة في العمل، ولكن الواقع يقول إن معظم الأشخاص لا يستطيعون القيام بما يتطلعون للقيام به. وستكون حياة الأطفال سعيدة ومستقرة ماداموا يتلقون الرعاية والاهتمام من الوالدين العاملين.
والآن.. من أين جاءت تلك الأفكار السلبية حول الأمهات العاملات أو عمل المرأة بشكل عام؟ هناك من يعتقد أن المرأة تتعرض لحملات منظمة من التخويف والترهيب تجعلها لا تفكر في أن تعمل. ومنظمو هذه الحملات هم أولئك الذين ترعبهم فكرة عمل المرأة. إن التحاق المرأة بمختلف الوظائف يعني استقلاليتها ويؤكد على قوتها وأهميتها كعضو فاعل في المجتمع،
وهناك من يتخوف ولأسباب مختلفة من المهددات التي يعتقد أنها سوف ترافق استقواء المرأة. وفي الوقت ذاته نجد أن عالم العمل يزدحم بالتحديات والمهددات، كما أن الأطفال قد يتعرضون لمواقف مخيفة وصعبة ويصعب العثور على شخص يوثق فيه لرعاية الأطفال خلال فترة غياب الأم. ونتيجة لذلك تعتقد العديد من النساء أن البقاء بالمنزل لتقديم الرعاية التي يستحقها الأطفال هو الخيار المثالي. وتواجه المرأة العاملة بحملات من اللوم والانتقادات تحملها مسؤولية المشكلات والمخاطر التي يتعرض لها عدد كبير من الأطفال. ولكننا نقول إن مجتمعات كثيرة لا تفعل ما يكفي من أجل الأطفال، ومعظم الأطفال في تلك المجتمعات عرضة للخطر والمشكلات، ولكن ليس لأن معظم الأمهات قد اخترن أن يكن نساء عاملات، وقد يكون الكثير منهن مضطرا ومجبرا على ذلك. إن السبب الحقيقي للمخاطر التي يتعرض لها الأطفال هو أن المجتمعات تمنحهم ما يستحقون من رعاية واهتمام، وأن معظم الأشخاص يفضلون تقديم الأم كبش فداء بدلا عن التفكير حول تحسين وتطوير أساليب رعاية الأطفال والعناية بهم.
التعلیقات