المراحل العلاجية اللاحقة لوقوع المنكر (٢)
السيّد سعيد كاظم العذاري
منذ 11 سنةإنّ اتخاذ الموقف من المرتكبين للمنكر ، وتصنيفه أو توزيعه على مراحل ، يعتمد على إكتشاف الواقع وإدراكه ، وليس على وضع مراحل نظرية متدرجة ، فالظرف والواقع الذي يعيشه المكلف ويعيشه المرتكب للمنكر ، ونوعية المنكر كمّا ونوعا ، ومن حيث التكرار وعدمه ، كل ذلك له مدخلية في تحديد المراحل والخطوات
.
وللوهلة الاُولى تحدّد هذه المراحل من خلال استقراء مسيرة المصلحين والمغيّرين على طول التاريخ ، والتي تكون قريبة من الواقع :
١ ـ اظهار الكراهية والتعريف بالمنكر : اظهار الكراهية للمنكرات والموبقات المرتكبة يساهم في ردع المرتكب لها ، أو على الأقل التستر بها كخطوة اُولى ، واظهار الكراهية يبدأ بالوجه ثم باللسان الكاشف عن الكراهية القلبية.
والتعريف بالمنكر غالبا ما يكون مقارنا في مقطعه الزمني لاظهار الكراهية ، فهو تذكير لمن يعرفه ، وتعليم لمن لا يعرفه ويرتكبه جهلاً منه بحرمته.
قال تعالى : « وإلى مَدينَ أخاهُم شُعَيبا قالَ يَا قَومِ اعبُدُوا اللّه مَا لَكُم مِّن إلهٍ غَيرُهُ ... * ويَا قَومِ أوفُوا المِكيَالَ وَالمِيزَانَ بِالقِسطِ وَلا تَبخَسُوا النَّاسَ أشياءَهُم وَلا تَعثَوا في الأرضِ مُفسِدِينَ * بَقِيّتُ اللّه خيرٌ لَّكُم إن كُنتُم مُّؤمِنِينَ ... »
ومن سيرة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم انّه كان يظهر كراهيته لبعض الممارسات الخاطئة ، ويرتقي المنبر من أجل ذلك ، فحينما بعث صلىاللهعليهوآلهوسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة داعيا لا مقاتلاً ، فلمّا وضعوا السلاح أمر بقتلهم ، فلمّا انتهى الخبر إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم رفع يديه إلى السماء ، ثم قال : « اللهمّ إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد »
وحينما سمع بريدة يقع في عليّ عليهالسلام قال له صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا تقع في عليّ فانه منّي وأنا منه وهو وليّكم بعدي »
فقد أظهر صلىاللهعليهوآلهوسلم كراهيته لهذا العمل ، ثم عرف بريدة بكون ما ارتكبه منكرا.
فالبعض قد يرتكب ما ينافي الأوامر الالهية ولا يعلم بحرمة ذلك ، فلا بدّ من توضيح ذلك إليه.
٢ ـ الوعظ والنصح : بعد التعريف بالمنكر أو التذكير به يأتي دور الوعظ والنصح ، فإنّ الموعظة والنصيحة لها تأثير ملموس على الإنسان ، لذا فإنّ الأنبياء والأئمة عليهمالسلام لم يتوقفوا عن ابداء المواعظ والنصائح لأتباعهم وللمخالفين لهم.
ويتم ذلك عن طريق التنبيه لمضار الانحراف الفكري والسلوكي وآثاره السلبية على الفرد والمجتمع. والتنبيه إلى الرقابة الالهية المحيطة بالإنسان والعالمة بسكناته وحركاته ، وما يسرّ وما يُعلن. وتذكيره بالثواب والعقاب يوم القيامة ، وتخويفه من غضب اللّه تعالى في دار الدنيا. وتذكيره بحقوق اللّه تعالى وحقوق الناس ، وتوجيهه إلى الآثار الايجابية للاستغفار والتوبة والعودة إلى الاستقامة ، وابداء المعونة له للتغلب على الأسباب التي تدفعه للانحراف ، والمساهمة في معالجة المشاكل التي تواجهه.
وقد حفل القرآن الكريم وكتب السيرة بالمواعظ والنصائح للمنحرفين. وأفضل أُسلوب في هذا المجال هو الترغيب والترهيب.
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام : « من اشتاق إلى الجنّة سلا عن الشهوات.
من أشفق من النار اجتنب المحرّمات.
من خاف العقاب انصرف عن السيئات.
ذكر الآخرة دواء وشفاء »
وقال الإمام موسى الكاظم عليهالسلام : « يا هشام ثم وعّظ أهل العقل ورغّبهم في الآخرة .. ثم خوِّف الذين لا يعقلون عذابه »
٣ ـ الزجر والتغليظ بالكلام : حينما يصرُّ مرتكب المنكر على انحرافه ، ولم تنفع معه المواعظ والنصائح المتكررة من قبل الفرد أو الجماعة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر ، فلا بدّ من استخدام الاساليب الرادعة له ، والانتقال مع الاساليب من الأسهل إلى الاشد.
وكثيرا ما يكون الكلام اللاذع مؤثرا في ردع الانحراف ؛ لأنّه سيكون بمثابة المطرقة الموقِظة التي تنبه العقل والضمير والارادة ، وتدفع المنحرف إلى التخلي عن انحرافه تجنبا للزواجر الموجهة إليه.
ومن ذلك قول إبراهيم عليهالسلام ـ كما ورد في القرآن الكريم ـ : « قَالَ أفتَعبُدُونَ مِن دُونِ اللّه مَالا يَنفَعُكُم شَيئا ولا يَضُرُّكُم * أُفٍّ لَّكُم وَلِما تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللّه أفلا تَعقِلُونَ »
وقد سمّى القرآن الكريم اصنافا من المسلمين بالفاسقين والمنافقين لكي يرتدعوا.
وفي السيرة النبوية بعض الشواهد على ذلك ، فحينما عصى بعض الصحابة أوامره صلىاللهعليهوآلهوسلم بالتوجه إلى جيش اُسامة ، غضب صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال :« جهزوا جيش اُسامة ، لعن اللّه من تخلّف عنه »
وقد يرتدع البعض خوفا من الصاق الالقاب المذمومة بهم.
٤ ـ المقاطعة والهجران : حينما يتمادى المنحرف في انحرافه تاركا للمعروف عاملاً بالمنكر ، عنادا منه واصرارا ، ولم يستجب لكلِّ موحيات الهداية والاستقامة ، ولم تنفعه الزواجر والتهديدات ، واغلق منافذ الهداية في قلبه وارادته ، تأتي مرحلة المقاطعة والهجران لاشعاره بانه عنصر غير مرغوب فيه من قبل الصالحين ، والاستفادة من الوقت للتفرّغ إلى هداية الآخرين وتغييرهم.
قال الإمام جعفر الصادق عليهالسلام : « لو انكم إذا بلغكم عن الرجل شيء تمشيتم إليه ، فقلتم : يا هذا إمّا أن تعتز لنا وتجتنبنا ، وإمّا أن تكفّ عن هذا ، فإن فعل وإلاّ فاجتنبوه »
وقال عليهالسلام لقوم من أصحابه : « إنّه قد حقّ لي أن آخذ البريء منكم بالسقيم ، وكيف لا يحقّ لي ذلك ، وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه ، ولا تهجرونه ، ولا تؤذونه حتى يتركه »
وقال عليهالسلام : « من مشى إلى صاحب بدعة فوقّره فقد مشى إلى هدم الإسلام »
والمقاطعة كان معمولاً بها من قبل رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته عليهمالسلام.
فقد أمر رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بمقاطعة ثلاثة من الصحابة تخلفوا عن غزوة تبوك وقال لبقية أصحابه : « لا تكلمنَّ أحدا من هؤلاء الثلاثة » فاعتزلوهم خمسين يوما ، ثم أبلغهم صلىاللهعليهوآلهوسلم بتوبة اللّه عليهم
وقاطع أهل البيت عليهمالسلام الغلاة والواقفة وبعض التيارات الهدّامة بعد ان يئسوا من اصلاحهم.
٥ ـ اظهار التكفهر والعبوس : بعد مرحلة الهجران والمقاطعة تأتي مرحلة التكفهر والعبوس في وجوههم أثناء اللقاء في الطرقات والاماكن العامّة ، لكي يرتدعوا ويعودوا إلى الاستقامة.
قال الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام : « أمرنا رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة »
وقال عليهالسلام : « أدنى الانكار أن يُلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة ».
وهذه المراحل أو الخطوات يتوقف اُسلوب العمل بها على طبيعة المجتمع من حيث درجة قربه وبعده عن الإسلام ، وعلى عدد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وطبيعة أصحاب المنكرات وعددهم ، فإذا كان الإسلام هو القاعدة الفكرية للنظام القائم وللمجتمع فإنّ هذه المراحل ستكون أقرب إلى تحقيق الهدف ، أمّا إذا كان الإسلام مقصيّا عن الحياة ، وكان المجتمع بعيدا عنه في فكره وعاطفته وسلوكه ، فلا تحقق هذه المراحل أهدافها في الآن وفي المستقبل القريب إلاّ بمضاعفة الجهود ، والاقدام الدائم على اداء المسؤولية دون تردد أو تراجع أمام المعوقات والمصائب ، والصبر على الأذى والبلاء ، فكل ذلك يؤدي إلى الاصلاح والتغيير ولو بعد حين.
٦ ـ التهديد والتخويف : حينما يزداد الانحراف ، ولا يرتدع مرتكبه بشتى الأساليب المعمول بها معه ، فقد يكون التهديد والتخويف نافعا بحقّه ، والتهديد والتخويف لا ينحصر باُسلوب معيّن ، بل يتناسب مع شخصية المنحرف ومدى انعكاسه عليها ، كالتهديد بالمحاصرة الاقتصادية أو الاجتماعية أو كليهما ، أو التهديد بالحاق الأذى البدني به ، أو التهديد بكشف انحرافاته، أو التهديد بالسجن واحيانا بالقتل تبعا لدرجات انحرافه.
فحينما اشتد اذى المنافقين والمنحرفين لرسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وللمسلمين، هددهم القرآن الكريم بالقول : « لَّئِن لَّم يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذينَ في قُلُوبِهِم مَّرضٌ وَالمرجِفُونَ في المدِينَةِ لَنُغرِينَّكَ بِهِم ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إلاّ قَلِيلاً »
التعلیقات