(١)فلسفة الحجاب في الإسلام
موقع المعارف
منذ 10 سنواتديباجة
التوجيهات والتبريرات التي ذكرناها آنفاً للحجاب تُمثِّل في الأغلب ما اصطنعه خصوم
الحجاب من حجج، وأرادوا بذلك أنْ يطرحوه بوصفه أمراً غير منطقيّ وغير معقول حتّى في صورته الإسلاميّة.
من الواضح أنّ الإنسان إذا افترض أنّ مسألةً ما خرافة، فالتبرير الذي سيذكره لها يتناسب مع كونها خرافة.
لكنّ الباحثين إذا تناولوا المسألة بشكلٍ حياديٍّ فسوف يُدركون أنّ الستر والحجاب الإسلاميّ لا يرتكز على تلك التبريرات الخاطئة والفارغة.
إنّنا نرى فلسفة خاصّة ومتميّزة للحجاب الإسلاميّ تُوجّه الحجاب وتبرّره عقليّاً، ويُمكن أنْ نُعدّها من زاوية تحليليّة الأساس لنظريّة الحجاب في الإسلام.
مصطلح الحجاب
قبل أنْ نعرض اجتهادنا في الكشف عن أساس هذا المصطلح ومدلوله يلزمنا أنْ نذكّر بمسألة في هذا المجال، وهي: ما هو المدلول الّلغوي لكلمة "الحجاب"، التي تعني في عصرنا ستر المرأة؟.
كلمة الحجاب تعني الستر، كما أنّها تعني البُردة والحاجب. لكنّ استعمالها في الأعمّ جاء بمعنى البُردة. وتدلّ هذه الكلمة على مفهوم الستر هنا باعتبار أنّ البُردة وسيلة للستر. ولعلّنا يُمكننا القول: إنّ كلّ ستر ليس بحجاب في أصل اللغة، بل ما يُدعى حجاباً هو الستر الذي يفصل تماماً في فصل البُردة عمّا وراءها. فيصف القرآن غروب الشمس بقوله: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَاب﴾1. يعني بعد الفصل التامّ بينها وبين الرائي. والغشاء الحاجز بين القلب والجوف يُدعى "الحجاب الحاجز". وفي عهد الإمام عليه السلام لمالك يقول: "فلا تطولنّ احتجابك عن رعيّتك". فالحجاب هنا الخفاء والعزلة.
إنّ استخدام كلمة الحجاب بمعنى ستر المرأة استخدام جديد نسبيّاً. فقديماً وعلى الخصوص في مصطلح الفقهاء كانت كلمة "الستر" تُستخدم بدلاً من الحجاب. لقد استخدم الفقهاء "الستر" حينما تعرّضوا لذلك في كتاب النكاح والصلاة ولم يستخدموا كلمة "الحجاب".
وقد كان الأفضل أنْ لا تُستبدل الكلمة، وأنْ نستخدم دائماً كلمة "الستر"، إذ إنّ معنى الحجاب الّلغويّ - كما قلنا - هو البردة. وحينما تُستخدم في مورد الستر فذلك باعتبار أنّ جسد المرأة يكون خلف سترها، ومن هنا تخيّل جمع أنّ الإسلام أراد أنْ تبقى المرأة خلف حائل، ووراء البردة، وتُحبس في دارها ولا تخرج منه!
إنّ الستر الذي فرضه الإسلام على المرأة لا يعني أنْ لا تخرج المرأة من بيتها. ولم تُطرح في ثقافة الإسلام مسألة حبس المرأة وسجنها في الدار. نعم كان هذا العُرف سائداً في بعض الحضارات القديمة كما في الهند وإيران، ولكن لا وجود لهذا العرف في الإسلام.
حجاب المرأة في الإسلام يعني: أنْ تستر المرأة بدنها حينما تتعامل مع الرجال، وأنْ لا تخرج أمامهم مثيرة. النصوص القرآنيّة تُثبت هذا المعنى ولم تستخدم كلمة الحجاب فيها، كما تُؤيده فتاوى الفقهاء، وسنذكر حدود الستر في ضوء إفادتنا من القرآن والسنّة.
إنّ الآيات القرآنيّة التي ألقت الضوء هنا ـ سواء في سورة النور أو سورة الأحزاب ـ ذكرت حدود ستر المرأة وطبيعة تعاملها مع الرجال الأجانب، دون أن تستخدم كلمة "الحجاب". نعم هناك آية في القرآن استخدمت كلمة "الحجاب"، وهي خاصّة في نساء النبيّ صلى الله عليه واله وسلم. نحن نعلم أنّ هناك أحكاماً خاصّة بنساء النبيّ صلى الله عليه واله وسلم وردت في القرآن الكريم.
فالقرآن الكريم يُخاطب نساء النبيّ صلى الله عليه واله وسلم صراحةً: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾. وقد أراد بذلك أنْ يحول دون أنْ تتحوّل "أمّهات المؤمنين"، بحكم ما لهنّ من احترام وتقدير في قلوب المسلمين، إلى أدوات بيد العناصر الأنانيّة المخرّبة يستغلّونهنّ على طريق مطامحهم السياسيّة والاجتماعيّة كما حدث لأمِّ المؤمنين "عائشة" بعد أنْ خالفت هذا الحكم، فحدث الانقسام السياسيّ الذي ترك آثاراً مفجعة في تاريخ الإسلام. وقد كانت نفسها تُظهر أسفها على ما حدث وتتمنّى لو كان لها جمع من الأبناء يُقتلون ولا يحدث ما حدث. وسرُّ منع نساء النبيّ صلى الله عليه واله وسلم عن الزواج بعد وفاته - كما أرى - هو عين ما تقدّم، يعني: أنّ الزوج اللاحق يُمكنه أنْ يُسيء الاستفادة من مركز زوجته فيحدث ما يحدث. من هنا فإذا كان هناك حكم أشدّ وآكد في خصوص نساء النبيّ فيعود لعوامل سياسيّة واجتماعيّة.
على أيّة حالة فالآية التي استخدمت فيها كلمة "الحجاب" هي الآية (53) من سورة الأحزاب إذ تقول: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاء﴾. وحينما يُستخدم مصطلح "آية الحجاب" في التاريخ الإسلاميّ يُراد به هذه الآية لا غيرها.
أمّا كيف شاعت كلمة "الحجاب" في العصر الأخير بدلاً من اصطلاح الفقهاء الشائع "الستر"، فإنّ أمر هذه المسألة مجهول عندي، ولعلّه نشأ جرّاء الخلط بين الستر الإسلاميّ والحجاب الذي تعارفت عليه أمم أخرى. وسنوضح هذه المسألة بشكل أكبر فيما بعد.
فلسفة الحجاب
ترجع فلسفة الحجاب الإسلاميّ ـ بنظرنا ـ إلى عدّة عوامل، بعضها ذو جانب نفسيّ، والآخر ذو جانب أُسريّ، وبعضها ذو بُعدٍ اجتماعيّ، وآخر يرتبط برفع مستوى المرأة واحترامها، والحيلولة دون ابتذالها. وتنبثق كلُّ هذه العوامل من قاعدة أعمّ وأشمل وهي أنّ الإسلام يُريد حصر ألوان المتعة الجنسيّة سواء كانت بصريّة أو سمعيّة أو لمسيّة في محيط الأُسرة والزواج القانونيّ، ويبقى المحيط الاجتماعيّ العامّ ميداناً للعمل والإنتاج. خلافاً لنظام الغرب في عالمنا المعاصر، حيث يخلط العمل والإنتاج بالّلذة الجنسيّة. فالإسلام يُريد فصل هذين المُحيطَين أحدهما عن الآخر بشكل كامل.
نأتي الآن إلى شرح الأبعاد الأربعة المتقدِّمة
1 - التوازن النفسيّ:حريّة الاختلاط بين الرجل والمرأة دون قيد أو شرط، وارتفاع الحاجز بينهما، يرفع نسبة الأمراض الجنسيّة، ويُحوّل طلب الجنس إلى عطش روحيّ وحاجة غير قابلة للإشباع. فالغريزة الجنسيّة قويّة وعميقة، وكلّما استجاب الإنسان لها ازداد هيجانها، كالنّار، فكلّما أُطعمت ارتفع أوارها. ولأجل إدراك هذه الحقيقة ينبغي الالتفات إلى أمرين:
أ - كما أنّ التاريخ يُذكِّر بذوي الجشع الماليّ، وأنّ هؤلاء كانوا يسعون لجمع المال والثروة بحرص محيّر، وكلما كثُرت ثروتهم ازداد حرصهم، فهو يُذكّر أيضاً بالجشعين في المسائل الجنسيّة، فهؤلاء أيضاً لم يقفوا عند حدٍّ على الإطلاق في اقتنائهم للحسناوات، فذوو الحريم، وجميع أصحاب النفوذ الذين كانوا مقتدرين على ذلك كانوا كذلك.
يقول "كريستنس" في الفصل التاسع من كتابه "إيران في العصر الساسانيّ":"نُلاحظ على رسوم الطاق الأثريّ بعضاً من صور الثلاثة آلاف امرأة التي كانت لدى "خسرو برويز"، فلم يُشبع هذا الملك ميله هذا أبداً فهو يجلب كلّ فتاة أو ثيّب أو ذات بعل يصفونها له إلى حرمه. وكلّما حصل لديه ميل لتجديد زوجته، يكتب إلى عمّاله في البلدان كتاباً يصف فيه خصائص المرأة الكاملة. ثُمّ يعمد عمّاله إلى جلب هذه المرأة إليه في أيِّ مكان وجدوها وكانت مواصفاتها متطابقة مع ما جاء في كتاب الملك".
ويُمكننا العثور على مثل هذه الحكايات بشكل كثير في التاريخ القديم. وقد استُبدل شكل هذه الحكايات في الواقع الجديد، مع فارق وهو أنّ الواقع الجديد لا يوجب أنْ يتوفّر الشخص على إمكانات خسرو برويز أو هارون الرشيد ليستطيع أنْ يتوفّر على هذا العدد الكبير من النساء، فبفضل الثقافة الجديدة يُمكن للشخص الذي يتمتّع بعُشر إمكانات برويز أو هارون أنْ يتمتّع بالجنس الأنثويّ بمقدار ما تمتّعا.
ب - هل تساءلت: إلى أيِّ صنفٍ من الإحساس ينتمي "الغزل"؟ فبعض النصوص الأدبيّة العالميّة تختصّ بالعشق والغزل، وفي هذا القسم، يتغزّل الرجل بمحبوبته ويُقدّرها، ويُقدِّم بين يديها حاجته، ويُشعرها بعظمتها وصغره أمامها، وهو أحوج ما يكون لالتفاتة من قِبَلها. ويبثّها لواعج الشوق والحنين على فراقها.
ماذا يعني هذا؟ لِمَ لا يُمارس البشر بشأن سائر حاجاتهم مثل هذا العمل؟ هل رأيت حتى الآن إنساناً يُحبّ الثروة أو الجاه قد تغزّل بالثروة أو الجاه؟ لِمَ يستطيب الإنسان غزل الآخرين؟ لِمَ نلتذ كثيراً بديوان حافظ؟ هل هناك غير أنّ الإنسان يجد أنّ هذه الأشعار تتطابق مع غريزة عميقة تملأ وجوده؟ كم هو خطل أولئك الذين يقولون: إنّ العامل الأساس لنشاط البشر هو الاقتصاد!!.
للبشر موسيقى خاصّة بالنسبة لحبّهم الجنسيّ، كما أنّ لهم موسيقى خاصّة بالنسبة للمعاني والقيم المثاليّة، في حين ليست لديهم موسيقى بالنسبة لحاجاتهم الماديّة البحتة كالماء والخبز.
أنا لا أُريد أنْ أدّعي أنّ كلّ العشق جنسيّ، ولا أقول أبداً إنّ حافظاً وسعدي وسائر الشعراء الغزليّين أنشدوا الشِّعر لأجل الغريزة الجنسيّة. فهذا بحث آخر، ينبغي دراسته بشكل مستقلّ. لكنّ الثابت أنّ الكثير من العشق والغزل هو عشق وغزل الرجال بالنسبة للمرأة، وهذا المقدار كافٍ لكي نعرف أنّ اهتمام الرجل بالمرأة ليس من قبيل اهتمام الخبز والماء، فيقتنع بإشباع بطنه، بل يظهر هذا الاهتمام بصورة حرص وجشع وتنويع، أو بصورة عشق وغزل. وسوف نتناول لاحقاً البحث حول الظروف التي يقوى بها هذا الاهتمام على صورة حرص وجشع جنسيّ، والظروف التي يظهر بها على صورة عشق وغزل، ويلبس ثوباً معنويّاً.
على أيِّ حال فقد اهتم الإسلام اهتماماً كاملاً بطاقة هذه الغريزة الحادّة. وقد وردت نصوص كثيرة في صدد خطر "النظر" والخلوة بالمرأة، وبالنتيجة خطر الغريزة التي تربط الرجل والمرأة أحدهما بالآخر. ولقد اتخذ الإسلام تدابير لتوجيه هذه الغريزة، وحدّد في هذا المجال تكاليف للرجال وللنساء.
فقد كلّفهما معاً بالنسبة للنظر:﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ... وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾2.
وخلاصة حكم هذه الآية هو: لا ينبغي للرجل والمرأة أنْ يتفحّصَ كلٌّ منهما الآخر في النظرة، وعليهما أنْ يتجنّبا النظر بشهوة، فلا يجوز لهما النظر بشهوة. كما قرّر تكليفاً خاصّاً بالنساء وهو أنْ يستُرنَ أجسادهن أمام الرجال الأجانب، وأنْ لا يظهرنَ في الملأ العام متبرِّجات، وأن لا يُمارسنَ بأيِّ عذر وبأيّة صورة عملاً يؤدّي إلى إثارة الرجال الأجانب.
إنّ روح الإنسان مؤهّلة للإثارة بشكل كبير. ومن الخطأ أنْ نظنَّ أنّ قابليّة الروح الإنسانيّة على الإثارة محدودة بحدٍّ خاصّ، تهدأ بعد تجاوزه. فكما أنّ البشر ـ أعمّ من الرجل والمرأة ـ لا يشبعون من الثروة والجاه، كذلك الأمر بالنسبة للجنس. فليس هناك رجل يشبع من مصاحبة الحسناوات، كما ليس هناك امرأة تشبع من لفت أنظار الرجال وامتلاك قلوبهم. وبالتالي كلُّ قلب لا يشبع.
ومن ناحية أخرى، فالطلب اللامحدود لا يمكن تلبيته سواء أردنا أم لم نُرد، وهو توأم مع لون من الإحساس بالحرمان. وعدم نيل الأماني بدوره يؤدّي إلى اضطرابات وأمراض نفسيّة. لِمَ تزداد نسبة الأمراض النفسيّة في الغرب؟
علّة ذلك: الحريّة الجنسيّة والإثارة الجنسيّة التي تحصل عن طريق الصحف والمجلّات والحفلات والسينما والاجتماعات الرسميّة وغير الرسميّة.
أمّا علّة اختصاص حكم الستر في الإسلام بالنساء فهو: أنّ الميل نحو التجمُّل أمر خاصّ بالنساء. فالرجل صيد - من زاوية القلوب - والمرأة صائد. والمرأة صيد - من زاوية الأجساد - والرجل صائد. وينشأ ميل المرأة نحو الظهور الأنيق جرّاء نزوعها لصيد قلوب الرجال.
لم يحدث في أيِّ مكان من العالم أن ارتدى الرجال ألبسة تحكي عن أبدانهم، وتأنّقوا بشكل مثير. فالمرأة بحكم طبيعتها الخاصّة تُريد أنْ تجلب قلب الرجل وتجعله أسيراً للارتباط بها. لذا فإنّ التبرُّج والعريّ انحرافان خاصّان بالنساء، وحكم الستر مقرّر لهنّ.
سوف نتناول بالبحث قابليّة الغريزة الجنسيّة على الطغيان، خلافاً لادّعاء أمثال "راسل". فبترك الغريزة الجنسيّة حرّة بشكل كامل خصوصاً مع توفّر أسباب الإثارة لا يحصل لها إشباع. كما سنتناول انحراف "النظر" لدى الرجال، وانحراف "التبرُّج" لدى النساء.
ادامه دارد
التعلیقات