النكاح من مقاصد الطبيعة
موقع ممهدات
منذ 10 سنواتأصل التواصل بين الرجل والمرأة مما تبينه الطبيعة الانسانية بل الحيوانية بأبلغ بيانها،
والإسلام دين الفطرة فهو مجوّزه لا محالة.
وأمر الايلاد والافراخ الذي هو بغية الطبيعة، وغرض الخلقة في هذا الاجتماع، هو السبب الوحيد والعامل الأصلي في تقليب هذا العمل في قالب الازدواج، وإخراجه من مطلق الاختلاط للسفاد* والمقاربة إلى شكل النكاح والملازمة؛ ولهذا ترى أن الحيوان الذي يشترك في تربيته الوالدان معا كالطيور في حضانة بيضها وتغذية أفراخها وتربيتها، وكالحيوان الذي يحتاج في الولادة والتربية إلى وكر تحتاج الإناث منه في بنائه وحفظه إلى معاونة الذكور، يختار لهذا الشأن الازدواج وهو نوع من الملازمة والاختصاص بين الزوجين الذكور والإناث منه، فيتواصلان عندئذ ويتشاركان في حفظ بيض الإناث وتدبيرها وإخراج الأفراخ منها، وهكذا إلى آخر مدة تربية الأولاد ثم ينفصلان، إن انفصلا، ثم يتجددّ الازدواج. وهكذا فعامل النكاح والازدواج هو الإيلاد وتربية الأولاد، وأما إطفاء نائرة الشهوة أو الاشتراك في الأعمال الحيوية كالكسب وجمع المال وتدبير الأكل والشرب والأثاث وإدارة البيت، فأمور خارجة عن مستوى غرض الطبيعة والخلقة وإنما هي أمور مقدمية أو فوائد مترتبة.
ومن هنا يظهر أن الحرية والاسترسال من الزوجين؛ بأن يتواصل كلّ من الزوجين مع غير زوجه أينما أراد، ومهما أراد، من غير امتناع كالحيوان العجم الذي ينزو الذكور منه على الإناث أينما وجدها، على ما يكاد يكون هو السنة الجارية بين الملل المتمدنة اليوم، وكذا الزنا وخاصة زنا المحصنة منه. وكذا تثبيت الازدواج الواقع وتحريم الطلاق والانفصال بين الزوجين وترك الزوج واتخاذ زوج آخر ما دامت الحياة تجمع بينهما. وكذا إلغاء التوالد وتربية الأولاد وبناء الازدواج على أساس الاشتراك في الحياة المنزلية على ما هو المتداول اليوم بين الملل الراقية، ونظيره إرسال المواليد إلى المعاهد العامة المعدّة للرضاع والتربية، كل ذلك على خلاف سنة الطبيعة وقد جُهّز الإنسان بما ينافي هذه السنن الحديثة على ما مرت الإشارة إليه.
نعم الحيوان الذي لا حاجة في ولادته وتربيته إلى أزيد من حمل الأم إياه وإرضاعها له وتربيته بمصاحبتها فلا حاجة طبيعية فيه إلى الازدواج والمصاحبة والاختصاص؛ فهذا النوع من الحيوان له حرية السفاد بمقدار ما لا يضرّ بغرض الطبيعة من جهة حفظ النسل.
وإياك أن تتوهم أن الخروج عن سنة الخلقة، وما تستدعيه الطبيعة لا بأس به بعد تدارك النواقص الطارئة بالفكر والروية مع ما فيه من لذائذ الحياة والتنعم، فإن ذلك من أعظم الخبط فإن هذه البنيات الطبيعية، التي منها البنية الإنسانية، مركبات مؤلفة من أجزاء كثيرة تستوجب، بوقوع كل في موقعه الخاص على شرائطه المخصوصة به، وضعا هو الملائم لغرض الطبيعة والخلقة، وهو المناسب لكمال النوع كالمعاجين والمركبات من الأدوية التي تحتاج إلى أجزاء بأوصاف ومقادير وأوزان وشرائط خاصة، لو خرج واحد منها عن هيئته الخاصة أدنى خروج وانحراف سقط الأثر. فالإنسان، مثلا، موجود طبيعي تكويني ذو أجزاء مركبة تركيبا خاصا يستتبع أوصافا داخلية وخواص روحية تستعقب أفعالا وأعمالا فإذا حول بعض أفعاله وأعماله من مكانته الطبيعية إلى غيرها يستتبع ذلك انحرافا وتغيرا في صفاته وخواصه الروحية وانحرف بذلك جميع الخواص والصفات عن مستوى الطبيعة وصراط الخلقة وبطل بذلك ارتباطه بكماله الطبيعي والغاية التي يبتغيها بحسب الخلقة.
وإذا بحثنا في المصائب العامة التي تستوعب اليوم الانسانية وتحبط أعمال الناس ومساعيهم لنيل الراحة والحياة السعيدة وتهدد الانسانية بالسقوط والانهدام، وجدنا أن أقوى العوامل فيها بطلان فضيلة التقوى وتمكن الخرق والقسوة والشدة والشره من نفوس الجوامع البشرية، وأعظم أسبابه وعلله الحرية والاسترسال والإهمال في نواميس الطبيعة في أمر الزوجية وتربية الأولاد، فإن سنّة الاجتماع المنزلي وتربية الأولادن اليوم، تميت قرائح الرأفة والرحمة والعفة والحياء والتواضع من الانسان من أول حين يأخذ في التمييز إلى آخر ما يعيش. وأما تدارك هذه النواقص بالفكر والروية، فهيهات ذلك، فإنما الفكر كسائر لوازم الحياة وسيلة تكوينية اتخذتها الطبيعة وسيلة لردّ ما خرج وانحرف عن صراط الطبيعة، والتكوين إليه لا لإبطال سعي الطبيعة والخلقة، وقتلها بنفس السيف الذي أعطته للإنسان لدفع الشر عنها، ولو استعمل الفكر الذي هو أحد وسائل الطبيعة في تأييد ما أفسد من شؤون الطبيعة، عادت هذه الوسيلة أيضا فاسدة منحرفة كسائر الوسائل، ولذلك ترى أن الإنسان، اليوم، كلما أصلح بقوة فكره واحداً من المفاسد العامة التي تهدد اجتماعه أنتج ذلك ما هو أمر وأدهى وزاد البلاء والمصيبة شيوعا وشمولا.
نعم ربما قال القائل من هؤلاء إنّ الصفات الروحية التي تسمى فضائل نفسانية هي بقايا من عهد الأساطير والتوحش، لا تلائم حياة الانسان الراقي اليوم، كالعفة والسخاء والحياء والرأفة والصدق؛ فإن العفة تقييد لطبيعة النفس فيما تشتهيه من غير وجه، والسخاء إبطال لسعى الانسان في جمعه المال وما قاساه من المحن في طريق اكتسابه، على أنه تعويد للمسكين بالبطالة في الاكتساب وبسط يده لذل السؤال، والحياء لجام يلجم الإنسان عن مطالبة حقوقه وإظهار ما في ضميره، والرأفة تضعف القلب، والصدق لا يلائم الحياة اليومية، وهذا الكلام بعينه من مصاديق الانحراف الذي ذكرناه.
ولم يدر هذا القائل أن هذه الفضائل في المجتمع الإنساني من الواجبات الضرورية التي لو ارتفعت من أصلها لم يعش المجتمع بعدها في حال الاجتماع ولا ساعة. فلو ارتفعت هذه الخصال وتعدّى كل فرد إلى ما لكل فرد من مختصات الحقوق والأموال والأعراض، ولم يسخ أحد ببذل ما مست إليه حاجة المجتمع، ولم ينفعل أحد من مخالفة ما يجب عليه رعايته من القوانين، ولم يرأف أحد بالعجزة الذين لا ذنب لهم في عجزهم كالأطفال، ومن في تلوهم وكذب كل أحد لكل أحد في جميع ما يخبر به ويعده وهكذا تلاشى المجتمع الإنساني من حينه. فينبغي لهذا القائل أن يعلم أن هذه الخصال لا ترتحل ولن ترتحل عن الدنيا وأن الطبيعة الإنسانية مستمسكة بها حافظة لحياتها ما دامت داعية للإنسان إلى الاجتماع، وإنما الشأن كل الشأن في تنظيم هذه الصفات وتعديلها بحيث توافق غرض الطبيعة والخلقة في دعوتها الإنسان إلى سعادة الحياة، ولو كانت الخصال الدائرة في المجتمع المترقي اليوم فضائل للإنسانية معدّلة بما هو الحري من التعديل لما أوردت المجتمع مورد الفساد والهلكة ولأقر الناس في مستقر أمن وراحة وسعادة.
ولنعد إلى ما كنا فيه من البحث فنقول الإسلام وضع أمر الازدواج فيما ذكرناه موضعه الطبيعي فأحل النكاح وحرم الزنا والسفاح، ووضع علقة الزوجية على أساس جواز المفارقة وهو الطلاق، ووضع هذه العلقة على أساس الاختصاص في الجملة ووضع عقد هذا الاجتماع على أساس التوالد والتربية، ومن الأحاديث النبوية المشهورة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "تناكحوا تناسلوا تكثروا..." الحديث.
*السِّفَاد : الجماع في الحيوانات والدواجن، (مصدر معجم اللغة العربية المعاصر)- محرر الموقع
التعلیقات