الادب على أربع مراتب
السيد عادل العلوي
منذ 9 سنواتالناس في الآداب على أربع طبقات ، والأدب في نفسه على أربع مراتب.
فأمّا طبقات الناس في الأدب ، فمنهم : أهل الدنيا أكثر آدابهم في الفصاحة والبلاغة والأسمار والأشعار والخطّ والحركة باليد خاصّة ، وبالبدن جملة
.
وأهل الدين ، أكثر آدابهم : التفقّه في أحكام الشرع ، والتحلّي بالعبادة وأركانها وشرائطها ، والانتهاء في المعاملات إلى مأخذ الشرع ، توفّراً على المباحات وتصوّناً عن المحظورات.
وأهل الإرادة ، أكثر آدابهم في رياضة النفوس وتأديب الجوارح وحفظ الحدود وترك الشهوات.
وأهل المعرفة أكثر آدابهم في طهارة القلوب وحفظ الوقت ومراعاة الأسرار وقلّة التعريج على النفس وخواطرها وشدّة التحفّظ في مقامات القربة ومواقعها.
وأمّا مراتب الأدب الأربع ، فهي : أن يحافظ في المعاملات بحيث لا يعيب عليه الكبراء ، ولا يأخذ من الدنيا ما يعيب عليه الزهّاد ، ولا يقع من إيثار الاُمور ما يعيب عليه الحكماء ، وتكون الصلاة في مراعاتها بحيث لا يعيب عليه الحفظة ، فإنّ الصلاة مناجاة الربّ ، فلا ينظر سرّه إلاّ إلى مولاه ، ولا يطلب من الدارين إلاّ رضاه ، فهذا في معرفة الأدب (1).
وإلى مثل هذه الآداب والكمالات يحتاج طالب العلم في سيرته الأخلاقية.
نشير إلى أهمّ الآداب التي على طالب العلم أن يراعيها ، ويعرف حدودها ، وما يترتّب عليها من الآثار في حياته الفردية والاجتماعيّة ، في الدنيا والآخرة ، ومن الله التوفيق والتسديد.
وعلينا أن نخاف يوم الوعيد ، كما نخاف من سوء العاقبة ، فإنّ من لم يهذّب نفسه ويخلص في علمه وعمله ، يبتلى بالحجاب الأكبر ، وتنطبق عليه مثل هذه الآيات القرآنية في قوله تعالى :
(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرينَ أعْمالا الَّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبونَ أنَّهُمْ يُحْسِنونَ صُنْعاً) (2).
(أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلـهَهُ هَواهُ وَأضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلـْم وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلـْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْديهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أفَلا تَذَكَّرونَ) (3).
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغاوينَ وَلَوْ شَئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلـكِنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلـْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلـْهَثٌ أوْ تَتْرُكْهُ يَلـْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرونَ ساءَ مَثَلا القَوْمُ الَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِنا وَأنْفُسَهُمْ كانوا يَظْلِمونَ) (4).
(مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلوها كَمَثَلِ الحَمارِ يَحْمِلُ أسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدي القَوْمَ الظَّالِمينَ) (5).
فهذه بعض أوصاف اُولئكَ العلماء الذين لم ينتفعوا من علمهم ، لأنّه لم يقترن العلم بالتربية والتزكية ، فإنّ أوّل ما ينبغي على طالب العلوم الدينيّة القيام به ، هو أن يكون بصدد تهذيب نفسه وتطهير روحه وصيقلة قلبه ، فإنّ جميع القيم والمثل ترتكز على محور تزكية النفس :
(قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاها).
وَما لم يتمّ غسل القلب من الأدران والصفات الشيطانيّة والرذائل النفسيّة فلن يكون باستطاعة شيء ـ حتّى العلم ـ أن ينجي الإنسان.
بل إنّ من لم يهذّب نفسه ... كلّما ازداد علماً علماً كلّما ازداد إضراره بنفسه وبمجتمعه ، إنّ العلم كالسكّين إذا كانت في يد جرّاح مختصّ ماهر فهي سبب الحفاظ على الحياة ، وإذا كانت في يد جاهل أحمق فهي خطر على الناس.
فيا أخي (الروحاني) فكّر جيّداً وانظر في عواقب الاُمور ، وليكن همّك قبل كلّ شيء تطهير باطنك وتنظيف قلبك.
إنّ حكم قتل آية الله الشهيد الشيخ فضل الله نوري رضوان الله عليه قد أصدره معمّم لم يهذّب نفسه ، أي الشيخ إبراهيم الزنجاني ممثّل زنجان في المجلس النيابي ، فقد تصدّى للقضاء في محاكمة الشيخ الشهيد وأفتى بقتله.
وقد ذمّت الروايات العلماء الذين لم يزكّوا أنفسهم ذمّاً كبيراً وبيّنت أنّ خطر هؤلاء لا تكاد تحدّه أبعاد.
يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « قصم ظهري اثنان : عالمٌ متهتّك وجاهل متنسّك ، فالجاهل يغشّ الناس بتنسّكه ، والعالم يغرّهم بتهتّكه ».
يقول الإمام الخميني (قدس سره) في هذا الصدد :
« إذا لم تصلحوا أنفسكم في الحوزات العلميّة ، فأينما ذهبتم فإنّكم تتسبّبون بانحراف الناس عن الإسلام وجعلهم يسيئون الظنّ بالروحانيّين ورجال الدين.
إذا درستم فقد تصبحوا علماء ، ولكن يجب أن تعلموا أنّ الفارق كبيرٌ جدّاً بين العالم والمهذّب ، فكلّما اختزنت هذه المفاهيم في القلب الأسود غير المهذّب يزداد الحجاب ، إنّ العلم في النفس غير المهذّبة حجاب ظلام ... العلم نورٌ ولكن في القلب الأسود يصبح سبباً في ازدياد دائرة الظلمة والاسوداد.
انتبهوا ، إيّاكم أن تبذلوا الجهد خمسين سنة بكدّ اليمين وعرق الجبين في الحوزات ثمّ تكسبوا جهنّم ... فكّروا وادرسوا سبل إصلاح المناهج الدراسيّة في مجال الأخلاق وتزكية النفس وتهذيبها.
معاذ الله أن يقبل الناس على شخص ويحترموه قبل أن يهذّب نفسه ، عندها يخسر نفسه ، ابحثوا عن حلّ قبل أن تبيض اللحى.
على الشباب أن لا ينتظروا حتّى يعلو بياض غبار الموت رؤوسهم ووجوههم ، ما دمتم شباباً فباستطاعتكم أن تفعلوا شيئاً.
انتبهوا ما دامت الفرصة باقية ، وكونوا قبل كلّ شيء بصدد تهذيب أنفسكم وتزكيتها » (6).
وزبدة المخاض ونتيجة ما تقدّم نصل إلى هذه الحقيقة الواضحة ، أنّ الوصول إلى الكمالات الروحيّة والمدارج المعنويّة ، والإحاطة بأسرار عالم الوجود ، وما وراء الطبيعة ، والانقطاع إلى الله سبحانه ، حتّى يكون الإنسان عالماً ربّانيّاً تتجلّى فيه صفات الله سبحانه وأسمائه الحسنى ، لا سبيل إليه إلاّ في إطار تهذيب النفس والتحلّي بالأخلاق الحسنة والسجايا الطيّبة.
« يقول صدر المتأ لّهين : عندما كنت في (كهك ـ قرية بأطراف قمّ المقدّسة) كنت أعمل على تهذيب نفسي ، كنت أخلو بنفسي واُفكّر ، أستعرض المعلومات التي تعلّمتها ، كنت اُحاول جاهداً أن أفهم أسرار الوجود بقوّة العلم والإيمان ، وبسبب الإخلاص وتزكية النفس ، أضاء قلبي وفتحت أمامي أبواب الملكوت ، وبعدها أبواب الجبروت وفهمت أسرار الدنيا الإلهية ، وفهمت أشياء لم أكن في البداية أتصوّر أن تفكّ لي رموزها » (7).
(قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (8).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ آداب النفس : ١٥٢.
2 ـ الكهف : ١٠٣ ـ ١٠٤.
3 ـ الجاثية : ٢٣.
4 ـ الأعراف : ١٧٥ ـ ١٧٦.
5 ـ الجمعة : ٥.
6 ـ سيماء الصالحين : ٢٥ ، عن الجهاد الأكبر.
7 ـ المصدر : ٣٢.
8 ـ الشمس : ٩ ـ ١٠.
التعلیقات