التربية الصالحة
شبكة المعارف الاسلامية
منذ 8 سنواتعن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: "إنّما قلبُ الحَدَث كالأرض الخالية، ما أُلقي فيها من شيء إلا قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبُك ويشتغل لبُّك لتستقبل بجدّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كُفيت مؤونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة"1
من المعلوم أن الأساس في عملية تكوين الأسرة هما الرجل والمرأة، أو فقد الأب والأم، والعنصر الفاعل في تربية المجتمع هو تربية أفراده... وبما أن المؤسسة الزوجية هي الرافد للمجتمعات لجهة الذرية ووجودها في الحياة الدنيا، كانت موضع اهتمام الإسلام وتعاليمه، ونالت المراتب السامية على مستوى التشريع والقانون وعندما حثّ الإسلام على الزواج ورغّب فيه أعتبره في الوقت نفسه رسالة وأمانة يحمل معها الإنسان الكثير من المسؤوليات التي لا يجوز له التقصير بشأنها ولا التهاون فيها.
وهي مسؤولية الوالدين في تربية وتأديب الأولاد تربية صالحة تنسجم مع روح الإسلام وأهدافه وتعاليمه.
الذريّة الصالحة
تعتبر الحاجة للأولاد ضمن البيت العائلي من الحاجات الفطرية والطبيعية لكلّ أبٍ وأم، فالولد نعمة من الله تعالى طلبها حتى الأنبياء والرسل(عليهم السلام) كما قال تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾2
وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامً﴾3
وفي الروايات ما يبيّن الأسباب الكامنة وراء وجود الأولاد الصالحين في البيت العائلي: فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "إنّ الولد الصالح ريحانة من رياحين الجنة"4.
وعنه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "من سعادة الرجل الولد الصالح"5.
وإذا كان الولد الصالح ريحانة وسعادة فلا شك بأنّ الولد السّيء مأساة كبيرة لوالديه، ويعرّضهما للمهانة في الدنيا والسؤال في الآخرة، ولذا قال الإمام علي(عليه السلام): "ولد السوء يهدم الشرف ويشين السلف"6.
ويرشدنا الإمام علي(عليه السلام) إلى كيفية طلب الذرّية من الله تعالى، ونوعيتها فيقول(عليه السلام): "ما سألت ربّي أولاداً نُضَرَ الوجه، ولا سألته ولداً حُسْنَ القامة، ولكن سألت ربّي أولاداً مطيعين لله وجلين منه، حتى إذا نظرت إليه وهو مطيع لله قرّت عيني"7.
وكما أنّ للولد الصالح أثر وفائدة على مستوى الدنيا حيث يمثّل مصدر إعانة للوالدين وسعادة لهما،كذلك في الآخرة لما يجرّه من حسنات إلى أهله بعد موتهما.
عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: "ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلاّ ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد وته، وسنّةً هدى سنّها فهي يُعمل بها بعد موته أو لد8 صالح يدعو له".
وفي الرواية عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنه: "مرّ عيسى ابن مريم(عليهما السلام) بِقبرٍ يُعذّب ثم مرّ به من قابل فإذا هو لا يُعذّب، فقال: يا ربّ مررت بهذا القبر عام أول فكان يُعذّب، ومررت به العام فإذا هو ليس يُعذّب؟ فأوحى الله إليه أنه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوى يتيماً فلهذا غفرت له فعل ابنه،ثم قال،رسول الله(صلى الله عليه وآله): ميراث الله عزّ وجلّ من عبده المؤمن ولد يعبده من بعده"9.
العوامل المؤثّرة في التربية
وضع الإسلام المناهج التربوية التي تؤثّر في تربية الولد وتنشئته ليكون صالحاً ومستقيماً. ومن الخصائص التي ميزّت العملية التربوية للإسلام هي أنه اعتبر بأنّ التربية تبدأ من مرحلة ما قبل الزواج، لتمرّ بمرحلة اختيار الزوج أو الزوجة إلى الظروف الخاصة التي ينبغي فيها أن تنعقد النطفة، ثم بمرحلة الحمل وما بعد الولادة، إلى أن تبدأ مرحلة التربية الفعلية.
وعلى ضوء ذلك يمكن اعتبار العوامل المؤثرة في التربية على أنها تمرّ بمرحلتين وهم:
المرحلة الأولى: ما قبل الولادة وعند الطفولة.
وعن هذه المرحلة يستحضر لنا القرآن الكريم قصة مريم(عليها السلام) والظروف التي مرّت بها سواء قبل الولادة أم في طفولتها.
فعندما حاول القوم النيل منها بسوء كان الشاهد الأكبر على كذبهم وافترائهم هو ما قالوه بأنفسهم في قوله تعالى: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّ﴾10.
وهذه إشارة قرآنية واضحة إلى واحد من العوامل المؤثرة في تربية الطفل الذي هو الوالدين.
فالنتاج الطبيعي لأبوين صالحين(والد ووالدة مريم) هو فتاة صالحة نقية طاهرة عفيفة لا يمكن لأحدٍ أن ينال من شرفها وكرامتها وهي سيدة نساء عالمها السيدة مريم(عليها السلام).
فللوالدين الأثر الكبير في تحديد سعادة وشقاء الطفل لأنهما يمهّدان الطريق لذلك أمام الطفل.
المرحلة الثانية: مرحلة الطفولة وبيئة الطفل.
فمرحلة الطفولة والبيئة التي ينشأ فيها الولد هي أيضاً من العوامل الأساسية في تكوين شخصيته، وإلى هذا العامل يشير القرآن الكريم أيضاً في حكايته عن قصة مريم(عليها السلام) بقوله: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾11.
فقوله تعالى: ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنً﴾إشارة إلى عملية تكامل مريم(عليها السلام)أخلاقياً وروحياً بفضل البيئة التي أودعها الله تعالى فيها والتي هي كفالة نبي من أنبياء الله تعالى ورعايته لها وهو زكريا(عليه السلام) فكانت أشبه شيء بالبذرة الصالحة التي وضعت في أرض صالحة فنبتت نباتاً حسناً وكانت النتيجة:
أولاً: أن تهبط عليها الملائكة بالرزق والطعام من عند الله تعالى.
ثانياً: أن تكون مهيأة لحمل أمانة كبيرة وهي أن تكون أمّاً لواحدٍ من أنبياء الله العظام وهو النبي عيسى (عليه السلام).
فإذا كان الأساس صالحاً وسليماً فكذلك يكون البناء، وإذا كانت التربة والأرض صالحة فالبذرة الصالحة تنبت وتكبر وتُثمر وهكذا هي الحال في الأسرة والجو أو البيئة التي ينشأ فيها الطفل، ويتعلم فيها، ويكتسب منها العادات والأخلاق، وتتكوّن في أجوائها شخصيته وسلوكه وأفكاره، ويتحدّد وضعه التربوي والنفسي.
وهذا ما يفسّر لنا الكم الكبير من الروايات التي حثّت على ضرورة إختيار الشريك في العملية الزوجية.
والأولاد هم نتاج العلاقة الزوجية بلا أدنى شك.
عواقب التربية السيئة
لأنّ التربية ذات قداسة في المنظور الإسلامي فقد اكتسبت واحتلّت مكانةً في التشريع لتصبح من الأمور الواجبة التي يأثّم الإنسان عند الإخلال بها.
فالولد له حق على الوالدين ومن جملة الحقوق الإعانة على تربيته تربية صالحة ولهذا يقول الإمام علي(عليه السلام) في وصيّته لولده الإمام الحسن(عليه السلام): "وجدتك بعضي بل وجدتك كلّي حتّى كأنّ شيئاً لو أصابك أصابني"12.
وعن هذه المسؤولية والواجب يقول الإمام زين العابدين(عليه السلام): "... وأنك مسؤول عمّا وليّته من حسن الأدب والدلالة على ربّه والمعونة على طاعته فيك وفي نفسه"13.
وكما أنّ للتربية الصالحة نتائجها وأثارها الدنيوية والأخروية الحسنة على الوالدين كما في قصة النبي عيسى(عليه السلام) عند مروره على القبر الذي كان صاحبه يتعذب، كذلك للتربية السيئة أضرارها ومساوئها، فقد روي عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه نظر إلى بعض الأطفال فقال: "ويل لأطفال آخر الزمان من آبائهم، فقيل: يا رسول الله، مِن آبائهم المشركين؟ فقال: لا من آبائهم المؤمنين،لا يعلمونهم شيئاً من الفرائض، وإذا تعلموا أولادهم منعوهم، ورضوا عنهم بعرضِ يسير من الدنيا، فأنا منهم بريء وهم منّي براء"14.
ولهذا فإن علينا جميعاً واجب كبير يفرض عليها الإهتمام بتربية أولادنا والعمل على تنشئتهم تنشئةً صالحة لنحظى برضا الله تعالى ورسوله الكريم(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام)، وهذا ما يُكسبنا أيضاً الثواب الكبير كما ورد في الحديث عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله): "لأن يؤدب أحدكم ولداً خيرٌ له من أن يتصدّق بنصف صاع كل يوم"15.
والحمد لله رب العالمين
* سماحة الشيخ خليل رزق.
1- نهج البلاغة، الرسالة: 31.
2- سورة آل عمران،الآية: 38.
3- سورة الفرقان،الآية: 74.
4- الكافي،الكليني: 6/3/ج10.
5- بحار الأنوار،المجلسي: 104/98/ح67..
6- ميزان الحكمة: 4/3303.
7- بحار الأنوار: 104/98/ح66.
8- الكافي،7/56.
9- وسائل الشيعة: 11/560/ح2.
10- سورة مريم، الآية: 28.
11- سورة آل عمران: الآية: 37.
12- نهج البلاغة،الرسالة: 31.
13- وسائل الشيعة: 15/176.
14- مستدرك الوسائل/ الميرزا حسين النوري: 15/165/ح1.
15- بحار الأنوار: 101/95.
التعلیقات