علاج القلق والحقارة
شبكة المعارف الاسلامية
منذ 8 سنوات
قال الله تعالى في كتابه العظيم: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾(المؤمنون:96).
إن القلق والإضطراب الفكري من اعظم عوامل التعاسة والشقاء في حياة الإنسان.
إن الشخص الذي يشكو قلقاً من رواسب طفولية أو غير ذلكعلى أثر خوف، أو حقارة، أو فشل، أو ضعف، أو عجز، أو جهل ويتألم لذلك، لو لم يفكر في علاج نفسه فإن الحياة تصبح بالنسبة له جحيماً لا يطاق، وبالتالي يصاب بعوارض مختلفة.
حديثنا في هذا المقال سيدور حول موضوعين:
1- الأعراض والمخاطر الناتجة من الشعور بالقلق.
2- اسلوب معالجة ذلك من الناحيتين الدينية والعلمية.
إتحاد النفس والبدن
أما فيما يخص الجانب الأول فلا بد من القول بأن الإرتباط والإتحاد بين النفس والبدن متين إلى درجة أن الآثار الطيبة أو السيئة لكل منهما تؤثر في الآخر. ولعمري فإن هذا من الأمور المتسالم عليها لدى العلماء السابقين والمعاصرين. إن الجسد يخضع لتأثير الحالات الروحية، وكذلك الروح تخضع لحالات الجسد. والشخص الذي يشكو من القلق والإضطراب ويحس بالألم وعدم الإستقرار في ضميره لا بدّ وأن يتأثر جسمه بتلك الحالة الروحية فتنحرف صحته.
لقد أثبتت البحوث العلمية للعلماء المعاصرين أن جانباً كبيراً من الأمراض المختلفة يرجع في نشأته الى الإضطرابات الروحية. ولا بد لعلاج هذه الأمراض من معرفة الأسس النفسية التي تعتمد عليها.
عوارض القلق
يستشهد العالم النفسي الشهير (ديل كارنيجي) بنصوص لعلماء متخصصين حول طائفة من الأمراض الجسمية التي يمكن أن تنبع من القلق والإضطراب وها أنا أنقل لكم نموذجاً من ذلك:
"لقد أمضيت إجازتي قبل بضعة أعوام في ولاية تكساس بصحبة الدكتور (كوبر) رئيس مصحات السكك الحديدية في (سانتافيا). وفي يوم من الأيام كنا نتحدث عن القلق فقال صديقي: إن 70% من المرضى الذين يراجعون الأطباء لو استطاعوا أن ينقذوا أنفسهم من قبضة الخوف والقلق فإنهم يستطيعون معالجة أنفسهم بأنفسهم. فمثلاً على ذلك يمكن علاج بعض أنواع القرحة المعدية، وعسر الهضم العصبي، والإضطرابات القلبية، والأرق، وبعض أنواع الصداع بتهدئة الوضع الروحي للمريض".
"يقول الدكتور (جوزيف مونتاكو) مؤلف كتاب (الاختلالات العصبية للمعدة): ليس ما تأكلونه سبباً في ظهور قرحة المعدة، بل إن ما يأكلكم وهو القلق هو الذي يؤدي إلى نشوء هذه القرحة".
"يقول الدكتور (ألفاريز): إن شدة أو ضعف القرحات المعدية تتصل اتصالاً مباشراً في الغالب بشدة أو ضعف الإضطرابات الداخلية. إن هذا الكلام يستند إلى تجربة أجريت على خمسة عشر ألف مريض راجعوا المستشفى الذي أشرف عليه فوجدت أن أربعة أخماس أولئك المرضى كانوا لا يملكون أساساً طبياً لعلاج معدهم إن الخوف والقلق والحسد والأنانية وعدم القدرة على الإنسجام مع البيئة عوامل مؤثرة في أمراض المعدة والقرحة فيها. إن قرحة المعدة تؤدي إلى الموت، وكما ذكرت مجلة لايف فإنها تقع في الدرجة العاشرة بين الأمراض المهمة والخطيرة".
"لقد ذكر المشرفون على (مستشفى مايو) الذائع الصيت في الولايات المتحدة أن النصف الأكبر من الأسرة في المستشقى يشغلها المصابون بالأمراض العصبية إنهم لا يشكون من فساد أو اختلال الجهاز العصبي... بل يؤلمهم الحرمان، والقلق، والخوف، والفشل، واليأس".
خسائر الأمراض الروحية
"إن الخسائر الناشئة من الأمراض تتزايد يوماً بعد يوم إن التقارير الطبية تحكي عن أن كل عشرين مواطناً في أمريكاً يوجد بينهم مواطن واحد سيقضي شطراً كبيراً من عمره في مستشفيات الأمراض الروحية. وأن سدس الشبان الذين دُعوا لخدمة العلم في الحرب العالمية الثانية كانوا قد أعفوا من ذلك بسبب النقائض الفكرية والروحية.
"ما هي علة الجنون؟
"لا يوجد أحد يعرف ذلك تماماً. ولكن ما لا ريب فيه أن القلق والخوف عاملان كبيران في جنون صاحبهما".
"ذكر الدكتور (ويليام ماك كوليكل) في مؤتمر أطباء الأسنان الامريكان: إن القلق يؤدي إلى تسوس الأسنان... ثم يستمر فيقول: إن الإضطرابات التي تؤدي إلى القلق تسبب اختلال مقادير الكالسيوم في الجسم، وهذا بدوره يعمل على تسوس الأسنان وفسادها".
"لا أعلم هل رأيتم في حياتكم شخصاً أنتفخت غدته الدرقية أكثر من المعتاد، لقد رأيت شخصاً كهذا... إن المصاب بذلك يرتعد دائماً وكأنه ميت خارج من قبره. تتناسب شدة المرض وضعفه مع كثرة الإفراز وقلته، تزداد سرعة نبضه، وربما انتهى به الأمر الى الموت".
"لقد ذهبنا قبل أيام بصحبة صديق كان مصاباً بهذا المرض إلى (فلادلفيا) لإستشارة طبيب معروف بمعالجة هذه الأمراض. وما أن دخلنا عليه حتى وجه إلى المريض هذا السؤال: ما هو الإضطراب الفكري الذي تشكو منه ونبّه صديقي إلى ضرورة إبعاد القلق عن نفسه وإلا أصيب بأمراض خطرة أخرى كمرض السكّر، والنوبة القلبية، وقرحة المعدة"1.
القلق ومرض الجسم
إن النصوص والاحاديث الواردة بهذا الصدد توضح أن الأئمة عليهم السلام كانوا على علم تام بهذا الأمر. وقد كانوا يذكرون لأتباعهم أن الخوف، والقلق، والحسد، والهم... وبصورة موجزة: جميع الإضطرابات الداخلية والآلام الروحية تؤدي إلى إنحراف المزاج.
1- قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "الهم يذيبُ الجسد"2.
2- وقال عليه السلام: "الهم نصف الهرم"3.
3ـ وقال عليه السلام: "الحسد يُفني، والحقدُ يذري"4.
4- وعنه عليه السلام: "الخائف لا عيش له"5.
5- وقال عليه السلام: "الحزن يهدم الجسد"6.
6- وقال أيضاً: "المريب أبداً عليل"7.
والخلاصة:ان العقد والآلام والإضطرابات وسائر الأمراض الروحية تترك آثاراً سيئة في جسد الإنسان بالإضافة إلى تأثيرها في إضطراب الفكر.
هذا فيما يخص الجانب الأول من بحثنا في هذا المقال.
مكافحة القلق
أما فيما يتعلق بالجانب الثاني وهو أسلوب علاج القلق فنقول: أن العلاج الاساسي لهذه الأمراض لا يتيسر بالأساليب الطبية ولا يتم عن طريق الأدوية والعقاقير. ان المصاب بالحقد والحسد، أو الذي يشكو من القلق والحقارة، أو الذي يئن من الهم والغم لا يمكن إنقاذه إلا باقتلاع جذور المرض... هؤلاء يجب أن يطهروا قلوبهم من الإنحراف والأفكار الفاسدة وأن يتناسوا الخواطر المرة التي جابهتهم في حياتهم، ويحاولوا أن يتحلوا بالفضائل والسجايا الحميدة حتى يستطيعوا إنقاذ أنفسهم من الدمار والهلاك.
إن التعاليم الإسلامية تؤكد على أهمية هذا الأمر.
1- فقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "إن الله سبحانه يُحبّ أن تكون نيّة الإنسان للناس جميلة"8.
2- وعنه عليه السلام: "أبلغ ما تستدر به الرحمة أن تضمر لجميع الناس الرحمة"9.
3- قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الكاظم من أمات أضغانه"10.
4- وعنه عليه السلام: "أطلق عن الناس عقدة كل حقد"11.
المنهج العلمي والمنهج الإسلامي
لقد وجدنا أن البرنامج الذي يقرره العلماء المعاصرون لحل العقد النفسية وإنقاذ الأفراد من الإضطراب والقلق يستند إلى تحليل الحالات الروحية للمريض. وبعبارة أوضح فإن العالم النفسي يستطيع لتهدئة الإنسان المضطرب والقلق أن يستند الى القواعد العلمية ويستفيد من طرق الطب النفسي فقط. فمثلاً يحلل عامل القلق، أو يوقظ الإستعدادات والمواهب الكامنة، أو يقوي الروح بالإيحاءات المفيدة، أو يؤكد على مسألة الإعتماد على النفس فيحيي شخصيته وينقذه من المشاكل والمآسي الكثيرة.
في حين أن المنهج الإسلامي الذي أكد عليه الأئمة عليهم السلام لعلاج الأمراض الروحية وحل العقد النفسية يستند الى قوتين: قوة العلم وقوة الإيمان وبعبارة أخرى فإن قادة الإسلام كانوا يستفيدون من الأسس العلمية والدقائق النفسية لمكافحة القلق من جانب ومن جانب آخر كانوا يستندون إلى قوة الإيمان في بعث الطمأنينة في القلوب. ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(الرعد:28).
لا ريب في ان تأثير الإيمان في صفاء النفس وبعث الطمأنينة في القلب أعظم من تأثير العلم وقوته. ففي الظروف الحرجة حيث يصل القلق الى القمة، وتهبّ الأعاصير في نفس الفرد، يعجز العلم عن تهدئة ذلك... بينما يتدخل الإيمان بقوته الجبارة فيهدىء الأوضاع ويبعث الإستقرار والطمأنينة في نفس الإنسان. وهذه هي سمة فريدة يمتاز بها الإسلام على المذاهب التربوية الأخرى في العالم.
ولكي تتضح أهمية الإيمان في علاج الأمراض الروحية والإضطرابات الباطنية وبذلك يتبين القارؤن الكرام عظمة التعاليم الإسلامية، أذكر لكم مثالاً عن موارد القلق.
التفاؤل والتشاؤم
هناك أشياء يشعر الأفراد في مختلف نقاط العالم بالتشاؤم نحوها، كالتشاؤم من العدد (13) عند كثير من الشعوب، ونعيق الغراب عند العرب وصوت البوم عند الإيرانيين. إن الأفراد الذين يعتقدون بالتشاؤم يضطربون كثيراً عندما يلاقون ما يتشاءمون منه، وقد يبعث ذلك الألم والاستياء الشديدين فيهم الى درجة أنهم لا يستطيعون القيام بنشاط ما في سبيل إنقاذ موافقهم.
فقد ولدت طفلة في اليوم الثالث عشر من الشهر، وعندما شبت الطفلة وترعرت وعلمت بأن ولادتها تصادف اليوم الثالث عشر بدأ الإضطراب يدبّ إلى نفسها. إنها كانت تتصور أن نحوسة يوم ولادتها تؤدي إلى تعاستها. لقد اضطر الوالدان لتهدئة الفتاة الى اخذها الى عيادة طبيب نفساني، وبذل الطبيب كل جهده لاقتلاع جذور القلق من نفس الفتاة، ولكنه باء بالفشل في كل محاولاته.
تزوجت هذه الفتاة بعد إنهاء دراستها الجامعية وولدت طفلاً ولكنها ما زالت تحترق في نار القلق والإضطراب. لقد كانت راكبة سيارتها بصحبة زوجها وطفلها حين صادفهم الطبيب النفساني في أثناء عبوره الشارع. فاستوقفهم واقترب من الشابة وقال لها: أرأيت كيف صدقت أقوالي فيك وأن اضطرابك كان تافهاً لا مبرر له ؟! انظري كيف أنك سعيدة بجوار زوجك وطفلك.
اجهشت الشابة بالبكاء وقالت: سيدي الطبيب، إني متيقنة من أن نحوسة العدد (13) ستؤدي إلى تعاستي ودماري !!
الإيحاءات المؤلمة
يعتقد علماء النفس أن التشاؤم وليد جهل الإنسان وليس خطراً حقيقياً أو آفة واقعية، إنهم يقولون: إنه عبارة عن إيحاء مؤلم يؤدي إلى إضعاف الروح ويسيطر على قلب المعتقد به وفكره.
كذلك الأئمة عليهم السلام فإنهم لم يعتبروا التشاؤم حقيقة، ولكن اذا اعتقد به شخص واهتم به فإنه يصاب بالقلق والاضطراب ومن البديهي أن القلق والإضطراب عبارة عن حقيقة نفسية قد تؤدي الى أمراض ومشاكل كثيرة.
قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "الطيرة ليست بحق"12.
إن الحوادث المؤلمة التي تقع في بعض الأحيان تستند الى نظام معين في الكون، ولا علاقة لها بالتطّير أبداً. كذلك فإن سلوك بعض الأفراد وفساد اخلاقهم هو السبب في ظهور العوارض والأمراض في حين أن الجهال ينسبونها الى التشاؤم والتطّير.
وكمثال على ذلك أذكر لكم قصة شاب كان قد خرج للنزهة في اليوم الثالث عشر من عيد نوروز (الذي يعتقد البعض بنحوسته ولذلك فإنهم يخرجون من البلدة فيه إتقاء لشره) !، وقد أفرط في شرب الخمر الى درجة أنه فقد وعيه ولم يعد قادراً على المشي. وعند الغروب كان يعبر من بعض الشوارع فعثر بصخرة وسقط في حفرة للمجاري فتكسر فكه الأسفل وتهشمت أسنانه، فاجتمع الناس وأخرجوه من الحفرة وهم يقولون: إن نحوسة اليوم لصقت بهذا الشاب وأوقعته في هذه الحفرة !
الحق أن العدد (13) لم يؤثر في وقوعه في هذه المشكلة، بل إن المشكلة التي عرضت له ناشئة من إفراطه في تناول الخمر...
لقد صرح القرآن الكريم بهذه النقطة النفسية المهمة عند التعرض لقصة موجزة، فقد قام بعض الأفراد الإلهيين بالدعوة إلى الإصلاح في قرية من القرى. فعارضهم اهل القرية وكذّبوهم، ثم ذكروا أنهم يتشاءمون من وجودهم بين ظهرانيهم: ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾(يس:18). فأجابهم هؤلاء: ﴿طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم﴾(يس:19). أي لا تتشاء موا منا، بل يجب عليكم أن تتشاءموا من وجودكم وسلوككم وعقائدكم الباطلة.
علاج التشاؤم
بعد أن عرفنا موجزاً عن التشاؤم وآثاره الوخيمة، نتعرض لطرق معالجة ذلك في نظر علماء النفس، وفي تعاليم الإسلام القيمة. وأظن أن المقارنة بين هذين المنهجين تبعث على إزدياد الإيمان بعظمة الإسلام وتعاليمه.
تتلخص كلمات عالم النفس في علاج الشخص المصاب بالتشاؤم، في أن العالم يسير حسب نظام ثابت ومتقن، ولكل ظاهرة في الكون علة خاصة منظمة، ولا يوجد موجود بدون استكمال علته الأساسية، وليس التشاؤم من العلل الكونية مطلقاً.
عندما كان الإنسان يعيش في جهل مطبق ولم يكن يقدر على الإحاطة بحوادث العالم فإنه كان يلجأ إلى الأوهام والخرافات. ومن تلك الخرافات التشاؤم. إن التشاؤم يستند الى جهل الإنسان في الماضي، وقد تناقلته الأجيال على أثر الإيحاءات المتكررة، واليوم لا يزال يعتقد البعض به.
إنه يقول للمريض: إن التشاؤم ليس حقيقة، ولكن التأثر الروحي الحاصل فيك تجاه الإعتقاد به أو عدم الإذعان له أمر واقعي. فأنت الذي تستطيع أن تعيش منعماً بالإستقلال والطمأنينة إن رفضت الإعتقاد به، وأنت الذي تستطيع أن تعتبره أمراً واقعياً فتتجرع الويلات والمآسي من جراء ذلك.
لقد استند الأئمة عليهم السلام قبل أربعة عشر قرناً لعلاج القلق عند الناس الى هذا المنطق العلمي، ولقد قاموا بتحليل الحالة الروحية للمصاب بالتشاؤم.
قال الإمام الصادق عليه السلام: "الطيرة على ما تجعلها، إن هونتها تهونت، وإن شددتها تشددت، وإن لم تجعلها شيئا لم تكن شيئاً"13.
نلاحظ من خلال هذا الحديث أن الإمام الصادق عليه السلام يتحدث عن الأساس العلمي فقط، ويستند الى منطق التحليل النفسي. ففي هذا المورد نجد الدين والعلم يسيران جنباً الى جنب ويسلكان طريقاً احداً. فإن الطريق الذي سلكه الإمام عليه السلام قبل قرون عديدة يستعمله علماء النفس المعاصرون في علاج القلق عند الأفراد.
مفترق الطرق
وجدنا المنهج العلمي والمنهج الإسلامي يتطابقان في علاج القلق الى هذه المرحلة. لكن المرحلة التالية تعتبر مفترق طريقين بين الإسلام وعلم النفس. لأن الأخير يعتمد على الأصول العلمية فقط ولذلك نجده يقصر عن علاج بعض الحالات التي لا تنفع نصائح الطبيب النفسي مع المريض. في حين أن المنهج الإسلامي لا يستند في علاج القلق الى المنطق العلمي فقط بل يستغل قوة الإيمان أيضاً. إن أثر الإيمان في علاج الأمراض الروحية أقوى بكثير من أثر العلم.
فعندما يقع الفرد المؤمن في ورطة التشاؤم يسلك الأئمة عليهم السلام لعلاجه طريقين: أحدهما علمي وهو الذي سبق شرحه. والآخر إيماني وهو الذي يعتبر الإعتقاد بالتشاؤم مناقضا للإيمان بالله.
1- قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: "الطيرة شرك"14.
2- قال صلى الله عليه وآله: "من رجعته الطيرة عن حاجته فقد أشرك"15.
3- روي عن أبي الحسن عليه السلام لمن أوجس في نفسه شيئاً: "إعتصمت بك يا ربّ من شرّ ما أجد في نفسي، فاعصمني من ذلك"16.
بهذا الأسلوب يوجه الإمام عليه السلام الفرد المسلم نحو الاستمداد من الله تعالى في دفع الشر عنه، وذلك كفيل بعلاج ما هو عليه من القلق والاضطراب. فإن الإيمان بالله أفضل الطرق لبعث الإستقرار والطمأنينة في القلب.. ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(الرعد:28).
المؤمنون الأحرار
إن الأحرار الحقيقيين هم الذين يؤمنون بخالق الكون ويستندون الى قدرته وعظمته. إنهم يتمتعون بأرواح قوية ونفوس مطمئنة... لا طريق للقلق والحقارة الى شخصياتهم... ومهما قست الظروف فإنها لا تستطيع دحرهم وإخضاعهم لها.
"عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: إنّ الحر حر على جميع أحواله. إن نابته نائبة صبر لها. وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره، وإن اسر وقهر أو استبدل باليسر عسراً، كما كان يوسف الصديق الأمين صلوات الله عليه لم يضر حريته أن استعبد وقهر وأسر، ولم يضره ظلمة الجب ووحشته وما ناله أن منّ الله عليه فجعل الجبّار العاتي له عبداً بعد أن كان له مالكاً"17.
اسلوب العلاج
ان منشأ ظهور عقدة الحقارة يختلف عند الأشخاص. فهناك بعض العقد النفسية والإضطرابات الروحية تنبع من فترة الطفولة، وهناك طائفة من هذه العقد والإضطرابات تحدث عند الكبر.
إن أول علاج للقلق والعقد الروحية هو محاسبة النفس وتحليل الحالات الروحية للمريض لمعرفة العلل الواقعية للشعور بالحقارة فما لم نحصل على المنشأ الحقيقي للمرض لا يتيسر العلاج الأساسي له.
يقول علماء النفس: إن الشخص المصاب بالإضطرابات الروحية والذي يشكو من عقدة الحقارة يجب أن يصنع لنفسه إضبارة ويحاكم نفسه أمام محكمة العقل. يجب عليه أن يستجلي الخواطر المرة التي تفصح عن نفسها بصورة مجهولة، وأن يزيل الغموض والإبهام عن الأفكار المؤلمة التي تهدده... يجب أن يصنع لكل جانب من هذه الجوانب سؤالاً ثم يحاول أن يجيب على السؤال بمعونة العقل، ثم يتخذ عزماً صحيحاً حول مصيره.
لقد أولى الأئمة عليهم السلام عناية بالغة إلى مسألة محاسبة النفس، وإحصاء النقائص، والسعي في إكمالها، والتخلي عن العيوب التي تحطم شخصية الفرد.
1- وبهذا الصدد يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "وعلى العاقل أن يُحصي على نفسه مساويها في الدين والرأي والأخلاق والأدب، فيجمع ذلك في صدره أو في كتاب ويعمل في إزالتها" 18.
2- وعنه عليه السلام: "من حاسب نفسه وقف على عيوبه وأحاط بذنوبه فاستقال الذنوب وأصلح العيوب"19.
3- وعنه عليه السلام: "من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر"20.
إن الفائدة من وراء محاسبة النفس هي التوصل الى جذور المرض الروحي ومعرفة علل الشعور بالحقارة. وهذا نفسه يحل كثيراً من العقد الروحية وينقذ الفرد من القلق المستمر، ولكن ليس هذا كل ما في المنهج الإسلامي، بل لا بد من محاسبة أخرى وهي التصميم لتدارك النقائص وإزالة العيوب.
هاتان المحاسبتان ضروريتان لعلاج جميع العقد الروحية والإضطرابات فعلى الإنسان أن يعرف نفسه ويدرك جذور المرض الذي يشكو من عوارضه أولاً، ويبحث عن طريق اقتلاع الجذور على هدى العقل والمنطق ثانياً.
الإيحاءات المشجعة
هناك بعض الأفراد مصابون بعاهات عضوية غير قابلة للعلاج ولذلك فإنهم يشكون من الحقارة. هذا النقص لا يمكن علاجه بالمحاسبة النفسية والمعالجة الطبية بل لا بد لذلك من القيام بالإيحاءات التي تبعث القوة والشجاعة في النفس.. هؤلاء يجب عليهم أن يتكيفوا للعاهة ويعملوا على إحياء الاستعدادات الباطنية والمواهب الكامنة حتى يتداركوا النقص الذي هم عليه.
وفي هذا يقول القرآن الكريم: "إدفع بالتي هي أحسن السيئة".
لو يعمل الناس جميعاً على تطبيق هذا المنهج القيم في حياتهم، ويدفعوا كل سيئة بالحسنة، فيدفعوا الظلم بالعدل، والغضب بالحلم، والنقص بالكمال والزلة بالعفو.. فإن المجتمع يبلغ الحد الأقصى للكمال والرقي.
نموذج تطبيقي
لنفرض تاجراً محترماً تدهورت أحواله فاضطر الى غلق محله بسبب من خلّوه من البضائع التي يستطيع الإستمرار في التجارة بواسطتها.
هذا الشخص يشعر بالحقارة في نفسه، ويفقد الراحة والإستقرار، ويصاب أُخيراً بالاختلالات الروحية والأمراض النفسية.
إن أساس العلاج في مثل هذه الحالة يستند إلى إجراء محاسبتين، ويتطلب الإجابة على سؤالين:
الأول: من أين حصل القلق ونشأ الشعور بالحقارة ؟
الثاني: ما الذي يجب إتباعه لعلاج القلق وحل عقدة الحقارة ؟
لو لم تكن في ضمير التاجر علل خفية أخرى للقلق والشعور بالحقارة لكانت الإجابة على السؤال الأول واضحة جداً. إنه فقد ثروته وبما أنه كان تاجراً محترماً في يوم ما، واليوم أصبح معدماً فإنه يتألم كثيراً.
أما الإجابة على السؤال الثاني فهي عبارة عن أن اليأس يجب تبديله إلى رجاء، ويجب تقوية روحه المندحرة... يجب دفعه للنشاط والعمل من جديد للحصول على الثروة، حتى يسترجع عزه ومنزلته في أنظار الناس.
يبقى الموضوع الدقيق وهو كيفية السيطرة على روح المريض، وتبديل اليأس في نفسه إلى رجاء.
إن علماء النفس يعمدون في هذه الموارد الى الأساليب العلمية البحت ويوحون الى التاجر المتدهور أن اليأس عامل كبير في جلب التعاسة لصاحبه. كن رجلاً، شدد عزمك، ابدأ العمل والنشاط من جديد، حاول استرداد ثقة الناس بك.. ثم يذكرون له بعض القصص عن أشخاص تدهورت أوضاعهم ثم تداركوا ذلك وبدأوا العمل ونجحوا نجاحاً منقطع النظير. ثم يقولون له: إنك تستطيع أن تقتدي بهؤلاء وتسير على ما ساروا عليه وتحصل على النجاح الباهر:
أما الأئمة عليهم السلام فإن لهم بالإضافة الى المنطق العلمي في معالجة هذه المشاكل، أسلوباً آخر يعتمد على الإتكال على الله واستمداد العون منه.
لقد كان أبو طيار من تجار الكوفة. وتدهور وضعه المالي مرة. فذهب الى المدينة وتشرف بلقاء الإمام الصادق عليه السلام، وذكر حالته وطلب من الإمام علاجاً لذلك. إن أول سؤال بدأ به الإمام عليه السلام هو أنه هل عندك حانوت في السوق ؟
قال: نعم ولكني هجرته منذ مدة لأني لا أملك ما أبيع فيه.
فقال عليه السلام: أذا رجعت الى الكوفة فاقعد في حانوتك واكنسه.
لا يوجد طريق لتدارك التدهور الإقتصادي الذي أصاب تاجراً بغير استعادة العمل والنشاط. وهذا لا يحصل مع اليأس والتردد، بل لا بد من العزم والإستقرار. ولذلك فإن الإمام عليه السلام قال له: "إذا أردت أن تخرج الى سوقك فصلّ ركعتين ثم قل في دُبر صلاتك:
وجهت بلا حول مني ولا قوة، ولكن بحولك يا ربّ وقوّتك، فأنت حولي ومنك قوتي"21.
لقد عمل أبو طيار بوصية الإمام عليه السلام. ففتح حانوته ولم تمض ساعة حتى جاء إليه بزاز وطلب منه أن يؤجره نصف حانوته فوافق على ذلك شريطة أن يدفع أجرة الحانوت كله. فجاء البزاز وبسط أمتعته في نصف الحانوت، وهذا أدى إلى أن يصبح للحانوت وجه جديد.
كان البزاز يملك عدة عدول من القماش لم تفتح بعد، فطلب أبو طيار منه أن يسمح له ببيع عدل منها على أن يأخذ الأجرة لنفسه ويعيد لجاره قيمة العدل. فوافق على ذلك، وسلّمه عدلا. فأخذ أبو طيار العدل وعرضه في النصف الآخر من الحانوت. وصادف أن الجو أصبح بارداً جداً في ذلك اليوم بحيث أقبل الناس على السوق يشترون الأقمشة لوقاية أجسامهم من البرد، وما أن غربت الشمس حتى انت الأقمشة كلها قد بيعت.
وفي هذا يقول أبو طيار: "فما زلت آخذ عدلا وأبيعه، وآخذ فضله وأردّ عليه رأس المال، حتى ركبت الدواب واشتريت الرقيق وبنيت الدور"22.
وهكذا نجد أن الأئمة عليهم السلام استندوا في جميع الموارد لحلّ العقد النفسية الى قوتي العلم والإيمان، وبذلك أكدوا على دور الإيمان في الأخذ بيد الإنسان نحو طريق السعادة والكمال.
*الطفل بين الوراثة والتربية، محمد تقي فلسفي، الأعلمي ط3، 2002م، ج2، ص357-369.
1- آئين زندگي ص 25.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 35.
3- نهج البلاغة، شرح الفيض الاصفهاني ص 1143.
4- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي.
5- نفس المصدر ص 34.
6- المصدر السابق ص 23.
7- المصدر السابق ص 29.
8- نفس المصدر ص 2711.
9- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 212.
10- المصدر السابق ص 37.
11- نهج البلاغة، شرح الفيض الاصفهاني ص 988.
12- نهج البلاغة، شرح الفيض الاصفهاني ص 1264.
13- روضة الكافي لثقة الإسلام الكليني ص 197.
14- حياة الحيوان للدميري ج2-66.
15- نفس المصدر.
16- سفينة البحار اللشيخ عباس القمي ـ مادةطير. ص 103.
17- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2- 89.
18- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج17-116.
19- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 696.
20- نهج البلاغة، شرح الفيض الأصفهاني ص 1170.
21- بحار الأنوار للعالمة المجلسي ج11-215.
22- بحار الأنوار للعلامة المجلسي 11-215.
التعلیقات