أخوات موسى المبرقع في قم المقدسة
السيد حسين الهاشمي
منذ 7 ساعاتحين نفتح صفحات التاريخ العلويّ المضيئة، ونغوص في أنوار أبناء بيت النبوّة والإمامة، تتجلّى أمامنا وجوهٌ طاهرة حملت عبق الرسالة، وأورثت الأرضَ سكينةَ الولاية، وإن لم تَعرفهم شهرةُ الدنيا كما عرفت آباءهم، فإنّ الله قد رفع ذكرهم في ملكوته الأعلى. ومن بين تلك الوجوه النيّرة يشرق موسى بن محمد الجواد عليه السلام، المعروف بـالمبرقع، ذلك السيّد الجليل الذي جمع بين النسب الطاهر والسيرة العطرة، وبين الحياء والعبادة، وبين العلم والكرم، فكان بحقٍّ من أولياء الله الصالحين.
وإن لم يكن موسى المبرقع من الأئمّة المعصومين عليهم السلام، إلا أنّ سيرته تمثّل امتداداً حيّاً لمدرسة الإمامة في بعدها الإنسانيّ والروحيّ، وتكشف عن جانبٍ مهمٍّ من تاريخ الشيعة في القرن الثالث الهجري، زمن التضييق والاغتراب، حيث حمل المبرقع راية الحقّ بصمته وثباته، وأقام الحجة بزهده وتقواه.
يوم الثاني والعشرون من شهر ربيع الثاني هو ذكرى وفاة هذا السيد الجليل إبن الأئمة الهداة المهديين. فمن الجميل أن نعرف القليل من سيرته الذاتيه وحياته والمصاعب والمشاكل التي واجهها طيلة حياته الشريفة. إنّ دراسةَ حياةِ موسى المبرقعِ عليه السلام ليست مجرّدَ استذكارٍ لشخصيّةٍ تاريخيّةٍ، بل هي نافذة على عالمٍ من الطهارة، ومثالٌ على كيفيّة حفظ الإيمان وسط العواصف، ودليلٌ على أن أنوار الإمامة لا تنطفئ، بل تمتدّ في ذراريهم الأطهار ليكونوا مناراتٍ للهداية عبر العصور.
سيرته الذاتية
موسى المبرقع هو إبن الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام وهو الأخ الأصغر للإمام محمد بن علي الهادي عليه السلام. والدته هي السيدة جليلة سمانة المغربية وهي والدة الإمام الهادي عليه السلام كذلك. فموسى والإمام الهادي عليه السلام شقيقان من جانب الأب والأم. ولد موسى المبرقع في سنة 214 للهجرة في مدينة جدّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم و بهذا فهو أصغر من أخيه الإمام الهادي عليه السلام بسنتين حيث ولد الإمام عليه السلام سنة 212 للهجرة. (1).
الهجرة إلى مدينة قم المقدسة
أقام موسى المبرقع في المدينة المنوّرة حتّى زمانِ استشهادِ والدهِ الإمام الجواد عليه السلام، ثمّ انتقلَ بعد ذلك إلى الكوفة، فأقام فيها مدّةً من الزمن، وفي سنة ٢٥٦ للهجرة اختار مدينة قم، فهاجر إليها واستقرّ فيها (2). هو أول من انتقل من الكوفة إلى قم من السادات الرضوية وكان يسدل على وجهه برقعا دائما ولذلك يسمى بالمبرقع. فلم يعرفه القميون فانتقل عنهم إلى كاشان فأكرمه أحمد بن عبد العزيز بن دلف العجلي فرحب به وأكرمه وأهدى إليه خلاعا فاخرة وأفراسا جيادا ووظفه في كل سنة ألف مثقال من الذهب وفرسا مسرجا (3). فلما عرفه القميون أرسلوا رؤساءهم إلى كاشان لطلبه وردوه إلى قم واعتذروا منه وأكرموه واشتروا من مالهم دارا ووهبوا له سهاما من القرى وأعطوه عشرين ألف درهم واشترى ضياعا كثيرة (4).
علّة تلقبه بالمبرقع
ذكر في الكتب التاريخية والروائية علتين للقب المبرقع. الأول ما ذكره إبن شعبة الحراني في كتابه حول موسى بن محمد الجواد عليهما السلام: « كان يسدل على وجهه برقعا دائما ولذلك يسمى بالمبرقع » (5). العلة الثانية ما ذكر بعضُهم أنّه عليه السلام كان كالنبيّ يوسف عليه السلام، ذا وجهٍ جميلٍ بهيّ، حتّى إنّ الناس كانوا، عند مروره في الأسواق، يتركون تجارتهم وينظرون إليه إعجاباً بجماله. ولذلك كان يضع على وجهه ستاراً (برقعاً) لئلّا يكون سبباً في وقوع أحدٍ في الإثم. ومن هنا اشتهر بلقب موسى المبرقَع عليه السلام، أي الذي يغطّي وجهه بالبرقع (6).
كان يشبه والدته الكريمة شبهًا خَلقيًّا واضحًا
هناك رواية جميلة عن الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام تبيّن لنا أن موسى المبرقع قد شابه والدته الكريمة في الأخلاق والصفات الخلقية. وذلك بشهادة الإمام الجواد عليه السلام بهذا الأمر. روى أحمد بن محمد بن عيسى: « عن أبيه أن أبا جعفر عليه السلام لما أراد الخروج من المدينة إلى العراق ومعاودتها أجلس أبا الحسن في حجره بعد النص عليه وقال له: ما الذي تحب أن اهدي إليك من طرائف العراق؟ فقال عليه السلام: سيفا كأنه شعلة نار. ثم التفت إلى موسى ابنه وقال له: ما تحب أنت؟ فقال: فرسا. فقال عليه السلام: شبهني أبوالحسن، أشبه هذا امه » (7). وهذا القول من الإمام الجواد عليه السلام ليس بيان نقص في موسى المبرقع. لأنه في مقام بيان الفرق بين ولديه. عندما قال الإمام الهادي عليه السلام سيفاً كأنّه شعلة نار، عبّر بذلك عن روح الجهاد والإمامة والحقّ، فالسيف في كلام الأئمة رمزٌ إلى قوّة الدين والدفاع عن الحقّ، وشعلة النار ترمز إلى نور الهداية والإصلاح. أما موسى المبرقع قال: فرسا. أي إنّه طلب شيئاً دنيويّاً جميلاً طبيعيّاً لشابٍّ من أبناء بيتٍ كريم، وهذا لا يُنقص من شأنه، لكنّه يُظهر الفرق بين المقام الإلهيّ للإمام والحالة الإنسانيّة لبقيّة الأبناء. فعندما قال الإمام الجواد عليه السلام: «شبهني أبوالحسن، أشبه هذا امه » لم يكن يقصد الشبه الجسدي فقط، بل الشبه في الروح والصفات.
أي أنّ الإمام الهادي عليه السلام يشبه أباه عليه السلام في المقام والعقل والنور الإلهيّ، وأمّا موسى المبرقع فله شبه بأمّه من حيث الطبيعة البشرية والعواطف الإنسانية.
مكانته العلمية
كان موسى المبرقع على معرفةٍ بعلم الحديث والدراية، وكان أيضاً من رواة الأحاديث. وقد أقرّ علماء الشيعة بعدالته ووثاقته وتقواه، كما أنّ بعضَ المحدّثين الذين لا يروون إلّا عن الثقات والرّجال المعتبرين قد نقلوا عنه الرواية. وقد روى عنه كلٌّ من الشيخ الكليني في كتاب الكافي، والشيخ الطوسي في التهذيب، والشيخ المفيد في الاختصاص، وابن شعبة الحرّاني في تحف العقول. وقد روى موسى المبرقع محادثته مع يحيى بن أكثم وسؤاله عن الإمام الهادي وتبيّن لنا هذه الرواية، مكانته العلمية وتقواه وورعه في المسائل الدينية. فقد روى موسى: « لقيت يحيى بن أكثم في دار العامة، فسألني عن مسائل، فجئت إلى أخي علي بن محمد عليهما السلام فدار بيني وبينه من المواعظ ما حملني وبصرني طاعته. فقلت له: جعلت فداك إن ابن أكثم كتب يسألني عن مسائل لافتيه فيها. فضحك عليه السلام ثم قال: فهل أفتيته ؟ قلت: لا، لم أعرفها. قال عليه السلام: وما هي ؟ قلت: كتب يسألني ... » (8).
ذهاب أخوات موسى إلى قم
عندما رجع موسى المبرقع إلى مدينة قم، جاءت إليه أخواته زينب وأم محمد وميمونة بنات الامام الجواد عليه السّلام، ثم جاءت بعدهنّ بريهة بنت موسى، وتوفين بقم ودفنّ عند السيدة فاطمة المعصومة عليها السّلام. وزينب هذه هي التي بنت على قبر السيدة معصومة عليها السّلام قبة بعد ان كان فوقه سقف من الحصير.
وفاة موسى المبرقع وبقعة چهل أختران
توفي موسى في يوم الاربعاء الموافق لـ 23 من شهر ربيع الثاني سنة 296 للهجرة، وصلّى عليه أمير قم العباس بن عمرو الغنوي ودفن المبرقع بقم في الدار المعروف بدار محمد بن الحسن بن أبي خالد الأشعري (9).
إن محمد بن الحسن هو أحد رواة قم، ومن أصحاب الإمام الرضا عليه السّلام، ووصيّ سعد بن سعد الأشعري القمي، ويطلق على داره وما حولها محلة الموسويان، وفيها مزاران. أحدهما صغير وفيه قبران أحدهما لموسى المبرقع والثاني قبر أحمد بن محمد بن أحمد بن موسى، والمزار الثاني كبير ويعرف ب (چهل اختران). أوّل من دفن فيه محمد بن موسى المبرقع ثم زوجته بريهة بنت جعفر بن الامام عليّ النقي عليه السّلام، وجاء إخوتها يحيى الصوفي وابراهيم إبنا جعفر إلى قم فأخذا ارث بريهة، وذهب ابراهيم وبقي يحيى الصوفي في قم وسكن دار زكريا بن آدم عند مرقد حمزة بن موسى بن جعفر عليه السّلام. ودفن إلى جوار قبر محمد بن موسى جمع من العلويين والسادة منهم زينب بنت الامام موسى عليه السّلام وأم محمد بنت موسى وأبو علي محمد بن أحمد بن موسى مع بناته فاطمة وبريهة وأم سلمة وأم كلثوم وغيرهنّ من العلويّات والفاطميّات وكلّهن من أعقاب وذراري موسى المبرقع (10).
كان ما تقدّم لمحةً يسيرةً مما وصل إلينا عن موسى بن الإمام الجواد عليه السلام، نرجو أن يكون فيما عرضناه فائدةٌ ومتعةٌ للقارئ الكريم.
1) مستدرك عوالم العلوم (للشيخ عبدالله البحراني) / المجلد: 23 / الصفحة: 553 / الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي – طهران / الطبعة: 1.
2) تاريخ قم (لحسن بن محمد الأشعري القمي) / المجلد: 1 / الصفحة: 215 / الناشر: نشر توس – قم / الطبعة: 1.
3) تاريخ قم (لحسن بن محمد الأشعري القمي) / المجلد: 1 / الصفحة: 215 / الناشر: نشر توس – قم / الطبعة: 1.
4) تحف العقول (لإبن شعبة الحراني) / المجلد: 1 / الصفحة: 476 / الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي – قم / الطبعة: 1.
5) تحف العقول (لإبن شعبة الحراني) / المجلد: 1 / الصفحة: 476 / الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي – قم / الطبعة: 1.
6) سيرة الإمام محمد بن علي الجواد (لفضل الله الصلواتي) / المجلد: 1 / الصفحة: 451 / الناشر: نشر الاطلاعات – طهران / الطبعة: 1.
7) بحار الأنوار (للعلامة محمد باقر المجلسي) / المجلد: 50 / الصفحة: 123 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 2.
8) تحف العقول (لإبن شعبة الحراني) / المجلد: 1 / الصفحة: 476 / الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي – قم / الطبعة: 1.
9) تعريب منتهى الآمال (للسيد هاشم الميلاني) / المجلد: 2 / الصفحة: 570 / الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي – قم / الطبعة: 1.
10) تعريب منتهى الآمال (للسيد هاشم الميلاني) / المجلد: 2 / الصفحة: 570 / الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي – قم / الطبعة: 1.
التعلیقات