المرأة في القرآن: طريق الكرامة الإلهية والتقوى
المرأة والاسلام
منذ ساعةفي زمنٍ تتجدّد فيه النقاشات حول مكانة المرأة ودورها في المجتمع، يأتي القرآن الكريم ليقدّم رؤيةً متكاملة تُعيد الاعتبار إلى كرامة الإنسان بعيدًا عن التمييز بين ذكرٍ وأنثى. فالمرأة في نظر الإسلام ليست تابعًا للرجل ولا كائنًا ناقصًا، بل هي شريكةٌ في الإيمان، والمسؤولية، والكرامة. وقد جسّد القرآن هذا المبدأ من خلال عرض نماذج نسائية مشرقة نلن مقاماتٍ عالية بفضل إيمانهنّ وطاعتهنّ لله، مثل سارة، وأمّ موسى، ومريم العذراء، وغيرهنّ من الصالحات اللواتي خُلّد ذكرهنّ في كتاب الله.
إنّ دراسة هذه النماذج لا تُعدّ مجرد تأملٍ تاريخي، بل هي رسالة تربوية معاصرة لكل امرأة تبحث عن دورها الحقيقي في عالمٍ مضطرب القيم: أن الكرامة لا تُمنح بالمال أو الجمال أو النسب، بل تُكتسب بالتقوى، والعمل الصالح، والإخلاص لله تعالى.
المرأة والكرامات الإلهية
من وجهة نظر القرآن الكريم، المرأة والرجل متساويان في نيل الكرامات الإنسانية، ولا يوجد أيّ تمييز بينهما في هذا المجال. فالكرامة في القرآن ترتبط بالتقوى الإلهية، ومن بلغها، نال شرف القرب من الله تعالى، سواء كان رجلًا أو امرأة، أبيض أو أسود، عربيًّا أو أعجميًّا. قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (۱).
على مرّ التاريخ، اختلف الناس في تحديد أسباب الفخر ومصادر الكرامة، فكانوا يرونها في مظاهر متعددة:
1. ففريقٌ منهم كان يعدّ الانتماء إلى قبيلةٍ مشهورةٍ سببًا للشرف، فيسعى جاهدًا لتكبير شأن قومه ليرتفع بهم.
2. وآخرون رأوا الكرامة في المال والثروة، واعتبروا القصور والخدم والحشم رموزًا للقيمة الاجتماعية.
3. وفئة ثالثة جعلت السلطة والمناصب السياسية معيارًا للشخصية والمكانة.
4. وبعضهم رأى في الانتماء إلى مناطقٍ معيّنة مصدرًا للفخر.
5. وآخرون تفاخروا بأنسابهم وآبائهم وأولادهم، وعدّوها سببًا للرفعة.
لكن الإسلام ألغى كل هذه المقاييس الزائفة، واعتبر القيمة الحقيقية للإنسان في عمله وسلوكه، وخاصة في التقوى والطهارة والالتزام بالحق. فقد حرّر الإنسان من عبودية الدم والقبيلة والعرق والمال والمنصب والنسب، وأعاد له كرامته الأصيلة التي تُقاس بالقرب من الله لا بالمظاهر الدنيوية.
ومن منظور القرآن الكريم، فإنّ الكرامة ليست حكرًا على جنسٍ دون آخر؛ فكما أنّ الرجال يمكنهم أن ينالوا هذا المقام الإلهي الرفيع، فإنّ النساء أيضًا قادرات على الوصول إليه.
وقد قدّم القرآن الكريم نماذج كثيرة لنساءٍ صالحات نلن هذه الكرامة الإلهية، وسجّل أسماءهنّ في كتاب الله ليكنَّ قدوةً للرجال والنساء معًا.
وسنكتفي هنا بذكر بعضٍ من تلك النماذج المشرقة التي خلدها القرآن الكريم:
سارة ونيل رحمة الله
من النساء اللواتي نلن الكرامات الإلهية سارة زوجة النبي إبراهيم عليه السلام.
لقد بلغت هذه السيدة الجليلة مقام الكرامة بفضل طاعتها لله تعالى، ومساندتها الصادقة لزوجها نبيّ الله إبراهيم عليه السلام. فقد كانت مثالًا للوفاء والإخلاص، إذ قدّمت جاريتها هاجر لزوجها حتى يرزقه الله ولدًا ويزول عنه همّ العقم، فجازاها الله على إخلاصها بالرحمة والبركة. وفي كِبر سنّها، بشّرها الله بولدٍ هو إسحاق، ومن بعده يعقوب، كما ورد في القرآن الكريم:
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (۲).
ومن خلال هذه الآيات الكريمة، يمكن استنباط عدّة نقاط مهمة:
أن سارة وصلت إلى مراتب عالية من الكرامة الإلهية.
وأن الله تعالى أفاض عليها برحمته وبركته بفضل هذا المقام الرفيع.
وأن أهل بيت إبراهيم عليه السلام كما وصفهم القرآن، هم أهل بركةٍ ورحمةٍ.
وقد تجلّت كرامة أخرى من كرامات سارة حين واجهت ملك مصر الجائر؛ فعندما مدّ يده الآثمة ليعتدي عليها، شلّ الله يده فلم يتمكن من لمسها.
وقد ورد في كتاب الكافي الشريف أنّ يد ذلك الملك بقيت جامدة لا تتحرك، فعرف عظمة هذه المرأة المؤمنة، وازداد تقديرًا لمقام نبيّ الله إبراهيم وزوجته سارة:
فَلَمَّا رَأَى سَارَةَ لَمْ يَمْلِكْ حِلْمُهُ سَفَهَهُ أَنْ مَدَّ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَأَعْرَضَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام بِوَجْهِهِ عَنْهَا وَ عَنْهُ غَيْرَةً مِنْهُ وَ قَالَ: اللَّهُمَّ احْبِسْ يَدَهُ عَنْ حُرْمَتِي وَ ابْنَةِ خَالَتِي، فَلَمْ تَصِلْ يَدُهُ إِلَيْهَا وَ لَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهِ. فَقَالَ: لَهُ الْمَلِكُ إِنَّ إِلَهَكَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِي هَذَا. فَقَالَ: لَهُ نَعَمْ إِنَّ إِلَهِي غَيُورٌ يَكْرَهُ الْحَرَامَ وَ هُوَ الَّذِي حَالَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ مَا أَرَدْتَ مِنَ الْحَرَامِ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: فَادْعُ إِلَهَكَ يَرُدَّ عَلَيَّ يَدِي فَإِنْ أَجَابَكَ فَلَمْ أَعْرِضْ لَهَا. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام: إِلَهِي رُدَّ عَلَيْهِ يَدَهُ لِيَكُفَّ عَنْ حُرْمَتِي. قَالَ: فَرَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَيْهِ يَدَهُ فَأَقْبَلَ الْمَلِكُ نَحْوَهَا بِبَصَرِهِ ثُمَّ أَعَادَ بِيَدِهِ نَحْوَهَا. فَأَعْرَضَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام عَنْهُ بِوَجْهِهِ غَيْرَةً مِنْهُ وَ قَالَ: اللَّهُمَّ احْبِسْ يَدَهُ عَنْهَا. قَالَ: فَيَبِسَتْ يَدُهُ وَ لَمْ تَصِلْ إِلَيْهَا فَقَالَ الْمَلِكُ لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام: إِنَّ إِلَهَكَ لَغَيُورٌ وَ إِنَّكَ لَغَيُورٌ فَادْعُ إِلَهَكَ يَرُدَّ عَلَيَّ يَدِي فَإِنَّهُ إِنْ فَعَلَ لَمْ أَعُدْ. فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام: أَسْأَلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّكَ إِنْ عُدْتَ لَمْ تَسْأَلْنِي أَنْ أَسْأَلَهُ. فَقَالَ الْمَلِكُ نَعَمْ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ صَادِقاً فَرُدَّ عَلَيْهِ يَدَهُ، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ يَدُهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمَلِكُ مِنَ الْغَيْرَةِ مَا رَأَى وَ رَأَى الْآيَةَ فِي يَدِهِ عَظَّمَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَ هَابَهُ وَ أَكْرَمَهُ وَ اتَّقَاهُ. وَ قَالَ لَهُ: قَدْ أَمِنْتَ مِنْ أَنْ أَعْرِضَ لَهَا أَوْ لِشَيْءٍ مِمَّا مَعَكَ فَانْطَلِقْ حَيْثُ شِئْتَ (۳).
أمّ موسى ومريم: الإيمان ومهبط الوحي
يمكن للمرأة أن تبلغ من درجات الكرامة الإلهية ما يجعلها موضعَ وحيٍ وإلهامٍ من الله تعالى. ومن النساء اللواتي وصلن إلى هذا المقام الرفيع يوكابد أمّ النبي موسى عليه السلام ومريم أمّ النبي عيسى عليه السلام.
فعندما خافت يوكابد على ولدها من بطش فرعون، وامتلأ قلبها حزنًا وقلقًا، أنزل الله عليها وحيًا يُثبّت فؤادها ويهديها إلى طريق النجاة، فقال سبحانه: وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (۴).
فهذا الوحي الإلهي دليلٌ على قوة إيمانها وصفاء قلبها حتى أصبحت مؤهَّلة لتلقّي خطابٍ مباشرٍ من الله تعالى.
أما مريم عليها السلام، فقد ورد اسمها في القرآن الكريم اثنتين وثلاثين مرة، وهذا وحده كافٍ ليُظهر مقامها العظيم وكرامتها عند الله. فقد خاطبها الله بواسطة ملائكته، وخصّها بالاصطفاء والطهارة على سائر نساء العالمين: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٥).
وقد بلغت مريم من الكرامة ما جعل الله يرزقها رزقًا مباركًا في محراب عبادتها، كما قال تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٦).
وهكذا نرى أنّ الله تعالى قد أكرم بعض النساء بالوحي والإلهام المباشر، جزاءً لإيمانهنّ الصادق وطهر قلوبهنّ، حتى أصبحن نموذجًا خالدًا في تاريخ الإنسانية.
ولا شك أنّ هناك آياتٍ أخرى عديدة تشير إلى نساءٍ بلغن هذا المقام من القرب والكرامة، إلا أنّ ذكرها كلّها يخرج عن حدود هذا البحث المختصر.
النتيجة
يثبت القرآن الكريم أنّ الكرامة الإلهية لا تُفرّق بين رجلٍ وامرأة، بل هي ثمرة الإيمان والطاعة. فقد بلغت سارة مقام الرحمة الإلهية، وأوحى الله إلى أمّ موسى تثبيتًا لقلبها، واصطفى مريم لتكون سيدة نساء العالمين. هذه النماذج القرآنية العظيمة تُظهر أن الإيمان الصادق قادر على رفع الإنسان إلى أسمى الدرجات، مهما كان جنسه أو موقعه الاجتماعي.
فلنجعل من هذه النماذج قدوةً لنا في حياتنا اليومية، ولنؤمن بأنّ الكرامة الحقيقية تبدأ من الداخل، من صفاء القلب وصدق النية مع الله.
ولتكن كل امرأةٍ مؤمنة سفيرةً للقيم القرآنية في بيتها ومجتمعها، تزرع الرحمة، وتنشر العفة، وتبني أجيالًا مؤمنة ترفع راية الخير والكرامة في كل زمانٍ ومكان.
1. حجرات: ١٣.
2. هود : ۷۱ _ ۷۳.
3. الكافي / الشيخ الكليني / الطبعة الاسلامية / المجلد ٨ / الصفحة : ٣٧٢.
4. القصص : ۷.
5. آل عمران : ٤٢ _٤٣.
6. آل عمران : ٣٧.








التعلیقات