فاطمة الزهراء سلام الله عليها وحقوق النساء
السيد حسين الهاشمي
منذ ساعةالحديث عن حقوق الإنسان، ولا سيّما حقوق المرأة، من أبرز القضايا التي شغلت الفكر الإنساني القديم والحديث، وازدادت أهميّته مع اعتماد اليوم العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من شهر ديسمبر من كلّ عام، الذي أُريد له أن يكون محطةً لتذكير البشريّة بكرامتها المشتركة. وضرورة حماية الفرد من الظلم والتمييز والإقصاء. ورغم الجهود الدولية والقوانين المعاصرة، يبقى البحث في النماذج التاريخية التي قدّمت تصوراً عملياً وراقياً لحقوق المرأة ضرورةً لفهم أعمق للعدالة الإنسانية، بعيداً عن الإطار النظري أو الشعارات العابرة.
في هذه السنة، تقارنت ميلاد سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء سلام الله عليها مع اليوم العالمي لحقوق البشر. فاطمة الزهراء سلام الله عليها المرأة التي خلّدت مكانتها المعنوية والدينية، وأيضا لكونها قدّمت صورة متكاملة عن كرامة المرأة، وحقوقها، ودورها الرسالي في الحياة العامة والخاصة. فقد كانت عليها السلام رمزاً للوعي والحرية والعدالة، وأثبتت أن المرأة ليست تابعاً ولا كائناً هامشياً، بل عنصر فاعل في بناء المجتمع، وركناً في صناعة الحضارة، وحافظةً للهوية والقيَم. ففي هذا الإطار، تلتقي الرسالة الإنسانية في اليوم العالمي لحقوق البشر مع الرسالة السماوية التي جسّدتها فاطمة الزهراء سلام الله عليها، إذ يشترك كلاهما في الدفاع عن الإنسان وحقّه في العيش بكرامة، ونبذ الظلم بكل أشكاله، خصوصاً ما يقع على المرأة. لهذا قررنا أن نكتب لكم حول فاطمة الزهراء سلام الله عليها وحقوق النساء.
العلم والتعلّم والتعليم
يُعَدّ التعليم والتعلّم من أهمّ الحقوق البشريّة والدينيّة لكلّ إنسان، رجلاً كان أو امرأة. فالتعليم بالنسبة للمرأة ليس ترفاً يُمنح أو يُمنع، بل هو حق إنساني ثابت يكفله العقل والدين والمواثيق الدولية ووسيلة لتطوير الذات واكتساب مهارات الحياة وبناء الشخصية الواعية وشرط أساسي للمشاركة الاجتماعية في سوق العمل، والخدمة العامة، والعطاء العلمي والثقافي.
إنّ المتتبّع للتراث الإسلامي يجد أن السيدة فاطمة عليها السلام كانت مرجعاً علمياً للنساء المسلمات، وقد نقلت عنها الأحاديث والروايات، حتى صارت من كبار رواة العلم في صدر الإسلام. فقد روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: « إِنَّ الله جَعَلَ عَلِياً وَ زَوْجَتَهُ وَ أَبنائه حُجَجَاً علی خَلْقِهِ وَ هُمْ أَبْوابُ العِلْمِ فِي أُمَّتي مَنِ اهْتَدی بِهِمْ هُدِي إِلی صِراطٍ مُسْتَقِيم » (1).
وكانت تجلس لتعلِّم النساءَ المؤمناتِ أحكامَ الشريعة الإسلاميّة ومعارفَ الدين الحنيف. وكانت النساءُ يقصدنَ بيتَها للسؤال والتعلّم، فتستقبلهنّ بصدرٍ رحب، وتشرح لهنّ الأحكامَ والمفاهيمَ القرآنيّة بوضوحٍ ولطف. هذا السلوك يُظهر أهمية الفضول العلمي والرغبة في التعلم، وهو ما يجب أن يتحلى به كل فرد، وخاصة النساء المسلمات. إن الرغبة في المعرفة لا تعترف بالحدود، ويجب على النساء المسلمات أن يتبعن هذا المثال في سعيهن للعلم. فقد روي عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام: « حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام، فقالت: إن لي والدة ضعيفة، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شئ، وقد بعثتني إليك أسألك، فاجابتها فاطمة عليها السلام عن ذلك، فثنت فأجابت، ثم ثلثت إلى أن عشرت فأجابت، ثم خجلت من الكثرة فقالت: لا أشق عليك يا ابنة رسول الله. قالت فاطمة عليها السلام: هاتي وسلي عما بدا لك. أرأيت من اكتري يوما يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار، يثقل عليه؟ فقالت: لا. فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤا، فأحرى أن لا يثقل علي، سمعت أبي صلوات الله عليه يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات، على كثرة علومهم، وجدهم في ارشاد عباد الله، حتى يخلع على الواحد منهم الف الف حلة من نور، ثم ينادي منادي ربنا عز وجل: أيها الكافلون لأيتام آل محمد عليهم السلام، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم، فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا، فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام، على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم » (2).
مشاركة النساء في الأمور الاجتماعية
المشاركة الاجتماعية للمرأة من أبرز الحقوق الإنسانية التي تؤثر بعمق في بنية المجتمع وصناعة حضارته. جاءت الرسالات السماوية والتجارب الإنسانية لتؤكد أن المرأة شريكة الرجل في التكليف والمسؤولية، وأنّ المجتمع لا ينهض إلا بتكامل جهدَي الرجل والمرأة.
المجتمع الذي يسمح للمرأة بأن تؤدي دورها الكامل يحقق عدداً من المكاسب الجوهرية مثل ارتفاع مستوى الوعي العام والثقافة الاجتماعية وانخفاض نسب الفقر والجهل بسبب زيادة الإنتاجية وتحقيق العدالة الاجتماعية وتقليل التمييز بين أفراد المجتمع.
فالسيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها تُعدّ المصداق الأبرز لمشاركة النساء في الحياة الاجتماعية. ومن أبرز مصاديق حضورها الاجتماعي، حضورها في المسجد النبوي بعد شهادة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، حيث دافعت عن أمير المؤمنين عليه السلام أمام جمع غفير من المهاجرين والأنصار. فقالت عليها السلام: « فَلَمَّا اِختارَ اللَّـهُ لِنَبِيهِ دار اَنْبِيائِهِ وَ مَأْوی اَصْفِيائِهِ، ظَهَرَ فيكُمْ حَسْكَةُ النِّفاقِ، وَ سَمَلَ جِلْبابُ الدّينِ، وَ نَطَقَ كاظِمُ الْغاوينَ، وَ نَبَغَ خامِلُ الْاَقَلّينَ، وَ هَدَرَ فَنيقُ الْمُبْطِلينَ، فَخَطَرَ في عَرَصاتِكُمْ، وَ اَطْلَعَ الشَّيطانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرَزِهِ، هاتِفاً بِكُمْ، فَأَلْفاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجيبينَ، وَ لِلْغِرَّةِ فيهِ مُلاحِظينَ، ثُمَّ اسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُمْ خِفافاً، وَ اَحْمَشَكُمْ فَاَلْفاكُمْ غِضاباً، فَوَسَمْتُمْ غَيرَ اِبِلِكُمْ، وَ وَرَدْتُمْ غَيرَ مَشْرَبِكُمْ. هذا، وَ الْعَهْدُ قَريبٌ، وَالْكَلْمُ رَحيبٌ، وَ الْجُرْحُ لَمَّا ينْدَمِلُ، وَ الرَّسُولُ لَمَّا يقْبَرُ، اِبْتِداراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ، اَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا، وَ اِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحيطَةٌ بِالْكافِرينَ » (3).
المقاومة والوقوف في قبال الظلم
حينما نراجع تاريخ البشريّة، نرى أنّ النساء تحمّلن الكثير من الضغوط وواجهن العديد من المظالم، وفي كثير من الأحيان لم يستطعن مقاومة هذا الظلم أو الوقوف في وجه الظالم. لكن كلّ عاقل يدرك أنّ من أولى الحقوق لكلّ شخص هي المقاومة، والوقوف في مواجهة الظلم، وأخذ الحق من الظالم. والسيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها تعلّم النساء في جميع العالم أنه من حقهنّ بل من واجبهنّ أن يقفن في وجه الظلم ويأخذن حقهن من الظالمين. فحينما غصب الغاصبون حقها من ميراث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأخذوا الفدك منها، ذهبت بكلّ شجاعة وخذلت الغاصبين. فقد روي: « لَمَّا بَلَغَ فَاطِمَةَ عَلَيهَا السَّلَامُ إِجْمَاعُ أَبِي بَکرٍ عَلَى مَنْعِهَا فَدَك، لَاثَتْ خِمَارَهَا عَلَى رَأْسِهَا وَ اشْتَمَلَتْ بِجِلْبَابِهَا وَ أَقْبَلَتْ فِي لُمَةٍ مِنْ حَفَدَتِهَا وَ نِسَاءِ قَوْمِهَا ... حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى أَبِي بَکرٍ- وَ هُوَ فِي حَشَدٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ ... فَقَالَتْ عَلَيهَا السَّلَامُ:... يا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، أَ فِي کتَابِ اللَّهِ أَنْ تَرِثَ أَبَاك وَ لَا أَرِثَ أَبِي؟! لَقَدْ جِئْتَ شَيئاً فَرِيا. أَ فَعَلَى عَمْدٍ تَرَکتُمْ کتَابَ اللَّهِ وَ نَبَذْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِکمْ إِذْ يقُولُ: وَ وَرِثَ سُلَيمانُ داوُدَ؟! وَ قَالَ فِيمَا اقْتَصَّ مِنْ خَبَرِ يحْيى بْنِ زَکرِيا إِذْ قَالَ: فَهَبَّ لِي مِنْ لَدُنْك وَلِيا يرِثُنِي وَ يرِثُ مِنْ آلِ يعْقُوبَ، وَ قَالَ: إِنْ تَرَك خَيراً الْوَصِيةُ لِلْوالِدَينِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَ زَعَمْتُمْ أَنْ لَا حُظْوَةَ لِي وَ لَا أَرِثَ مِنْ أَبِي وَ لَا رَحِمَ بَينَنَا » (4).
تعلم النساء في العصر الحالي من سيرتها
تظلّ تعاليم السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام مؤثرةً في العالم المعاصر. ففي المجتمعات الإسلامية يمكن للنساء بالاستلهام من شخصيتها وسيرتها السعي إلى تحقيق حقوقهنّ والمشاركة الفاعلة في المجتمع. إنّ القضايا المرتبطة بحقوق المرأة، والتعليم، والعدالة الاجتماعية، التي كانت مطروحة في زمن السيّدة فاطمة عليها السلام، ما تزال حاضرة في عالم اليوم، ويمكن أن تكون مصدراً للإلهام بالنسبة للمرأة المعاصرة.
إنّ فاطمة الزهراء عليها السلام، بوصفها شخصيةً محوريةً في تاريخ الإسلام، قد أدّت دوراً بارزاً في الارتقاء بحقوق النساء. فقد أكّدت على الحقوق الإنسانية، وقدّمت من خلال سلوكها نموذجاً عملياً، ودعمت التعليم، لتُبيّن للنساء أنّ بإمكانهنّ أداء دور فعّال في المجتمع الإسلامي. ولا تزال آثارها في المجتمع الإسلامي ممتدّة إلى يومنا هذا، ويمكن أن تُعدّ مصدر إلهام للنساء في العصر الحديث.
وفي الختام يمكن القول: إنّ السيّدة فاطمة عليها السلام ليست مجرّد قدوة دينية، بل هي رمز لحقوق المرأة ودورها في تاريخ الإسلام والمجتمعات الإسلامية.
1) عوالم العلوم (للمحدث الشيخ عبدالله البحراني) / المجلد: 11 / الصفحة: 107 / الناشر: مؤسسة الإمام المهدي – قم / الطبعة: 1.
2) مستدرك الوسائل (للمحدث الشيخ حسين النوري) / المجلد: 17 / الصفحة: 318 / الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام – قم / الطبعة: 1.
3) بحارالأنوار (للعلامة محمدباقر المجلسي) / المجلد: 29 / الصفحة: 215 / الناشر: دار إحياء التراث – بيروت / الطبعة: 1.
4) بحارالأنوار (للعلامة محمدباقر المجلسي) / المجلد: 29 / الصفحة: 215 / الناشر: دار إحياء التراث – بيروت / الطبعة: 1.











التعلیقات