يوم السكّري العالمي ٢٠٢٥: السكّري والرفاهية في مكان العمل
صحة الاسرة
منذ 3 ساعاتفي زحمة الحياة، ننسى أحيانًا أن أجسادنا أمانة بين أيدينا. نهمل التعب الخفيف، نؤجل الفحوصات، ونظن أنّ الأمور بخير. لكن هناك مرضًا صامتًا، يتسلّل ببطء، إنّه داء السكّري… المرض الذي لا يَقرع الباب قبل أن يدخل.
السكري ليس حكمًا نهائيًا، ولا نهاية الطريق، بل هو نداء من الجسد ليقول: تمهّل، نظّم غذاءك، تحرّك، وامنحني عنايةً أكثر. يمكن لكلّ إنسان أن ينتصر عليه إن التزم بنظام غذائي متوازن، ورياضة منتظمة.
ما هو داء السكّري؟ ولماذا نُحيي هذا اليوم؟
داء السكّري هو مرضٌ شائع، لكنّه يبدأ بهدوء، دون ألمٍ واضح في البداية. يحدث عندما لا يستطيع الجسم استعمال السكر الموجود في الدم بطريقة صحيحة. فالسكر هو الطاقة التي يحتاجها الإنسان ليعيش ويعمل ويتحرّك، لكنّه يحتاج إلى مفتاحٍ صغيرٍ اسمه الأنسولين، وهو هرمون يُنتجه البنكرياس داخل الجسم.
عندما يقلّ الأنسولين، أو عندما لا يستجيب له الجسم كما يجب، يبقى السكر في الدم بدل أن يدخل إلى الخلايا، فتبدأ مشكلات كثيرة مع الوقت: تعبٌ سريع، عطشٌ دائم، ضعفٌ في النظر، وأحيانًا مضاعفات في القلب أو الكلى إن لم يُعالج المرض.
أنواع السكّري:
النوع الأوّل: يظهر عادةً في سنٍّ صغيرة، ويحتاج المصاب به إلى تناول الأنسولين يوميًا.
النوع الثاني: يظهر غالبًا بعد سنّ الأربعين، ويرتبط بنمط الحياة: ككثرة الطعام غير الصحي، الجلوس الطويل، وقلة الحركة. ويمكن السيطرة عليه بالتنظيم والاهتمام قبل أن يتطور. ولهذا خصّص العالم يومًا خاصًّا هو 14 تشرين الثاني/نوفمبر للاهتمام بهذا المرض.
إنّه يوم ميلاد الطبيب الكندي فريدريك بانتنغ، الذي اكتشف الأنسولين مع زميله جون ماكليود قبل أكثر من مئة عام.
بفضل هذا الاكتشاف، حُفظت حياة ملايين البشر، وصار الأنسولين رمزًا للأمل بعد الخوف، وللحياة بعد المرض.
كيف يؤثر السكّري على الحالة النفسيّة والروحيّة؟
السكّري لا يرهق الجسد فقط، بل يلامس النفس أيضًا. فالكثير من الناس يشعرون بعد اكتشاف المرض بالخوف أو القلق أو حتى الحزن، لأنّهم يظنّون أنّ حياتهم تغيّرت إلى الأبد. لكنّ الحقيقة أنّ السكّري لا يمنع الإنسان من أن يعيش حياةً جميلة وسعيدة، بل هو دعوةٌ إلى تنظيم الحياة بطريقةٍ أفضل.
هذه الراحة تبدأ من الداخل، من الرضا بقضاء الله، ومن الثقة أنّ الله ما ابتلى عبده إلا ليرفعه ويقوّيه. يقول الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام: « إن المرض لا يزال بالمؤمن حتى لا يكون عليه ذنب » (1)، فكلّ لحظة صبر، وكلّ جهدٍ في ضبط النفس والغذاء، هي عبادة خفيّة يُثاب عليها المؤمن.
من المهم أن يتحدث الإنسان عن مشاعره ولا يخفيها، وأن يطلب المساندة من عائلته أو أصدقائه. فالكلمة الطيبة تشفي أحيانًا أكثر من الدواء، والابتسامة تخفّض التوتر كما لو كانت علاجًا طبيعيًا.
إنّ التوازن بين الجسد والروح هو مفتاح السيطرة على السكّري. فالجسد يحتاج إلى النظام والغذاء، والروح تحتاج إلى الإيمان والسكينة. وعندما يجتمع الاثنان، يصبح السكّري مجرد ضيفٍ يمكن التعايش معه بسلام، لا عدوًّا نخافه. كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: « امش بدائك ما مشى بك » (2).
السكّري والرفاهية في مكان العمل – شعار عام 2025
اختار العالم هذا العام شعارًا مهمًا هو «السكري والرفاهية في مكان العمل»، لأنّ مكان العمل هو المكان الذي نقضي فيه ساعات طويلة من يومنا، وهو أيضًا المكان الذي تتأثر فيه صحتنا النفسية والجسدية أكثر من أي مكان آخر. كثير من الناس يعملون تحت ضغط كبير، يجلسون لساعات طويلة أمام المكتب، ويهملون وجباتهم أو يأكلون بسرعة. هذا النمط من الحياة قد يرفع مستوى السكر في الدم حتى عند الأشخاص الذين لا يعانون من السكري بعد، لأنّ قلة الحركة، والتوتر، وسوء التغذية من أهم الأسباب التي تضعف توازن الجسم.
أما الأشخاص الذين يعيشون مع السكّري فعلًا، فإنّ بيئة العمل قد تكون تحدّيًا إضافيًا لهم. فمثلاً، إذا كانت ساعات العمل طويلة أو المواعيد غير منتظمة، قد يصعب عليهم تناول طعامهم أو أخذ دوائهم في الوقت الصحيح. بعضهم يشعر بالخجل من فحص السكر أمام زملائه، أو يخاف من نظرة الآخرين عندما يتعب أو يحتاج إلى استراحة قصيرة. ولهذا جاء شعار هذا العام ليذكّر الجميع ـ أصحاب العمل والموظفين ـ أن الصحة في مكان العمل حقّ للجميع، وأنّ دعم الأشخاص المصابين بالسكري لا يحتاج إلى مجهودٍ كبير، بل إلى تفهّمٍ واحترامٍ وتنظيمٍ بسيط.
يمكن لأيّ بيئة عمل أن تكون أكثر صحّة بخطوات صغيرة: مثل السماح بوقتٍ قصير للحركة أو المشي كل ساعتين، أو تخصيص زاوية صغيرة للأطعمة الصحية، أو تشجيع الموظفين على شرب الماء بدل المشروبات الغازية. هذه التغييرات البسيطة لا تحمي فقط من السكّري، بل ترفع الإنتاجية وتمنح الجميع طاقة إيجابية.
أسلوب حياة صحي في مكان العمل
كثير من الناس يظنّون أنّ ضبط السكر يعني فقط الأدوية أو الحمية، لكنّ الحقيقة أنّ أسلوب الحياة اليومي هو المفتاح الأهم. ومكان العمل جزء كبير من هذا الأسلوب، لأنّنا نقضي فيه ساعات طويلة من يومنا، وغالبًا ما نتحرك فيه قليلًا. لذلك، من الضروري أن نحول بيئة العمل إلى مكان يساعد على الصحة بدل أن يرهقها.
الحركة المنتظمة
أول ما يحتاجه الجسم هو الحركة المنتظمة. ليس المقصود الرياضة الشاقة، بل خطوات بسيطة متكرّرة. فمثلاً، يمكن للموظف أن يتحرّك لدقائق بين كل ساعة وأخرى، يصعد السُّلَّم بدل المصعد، أو يتمشّى قليلًا بعد الغداء. هذه الحركات الصغيرة تساعد الجسم على استعمال السكر بدل أن يتراكم في الدم، وتحسّن المزاج في الوقت نفسه.
تنظيم الطعام في مكان العمل
النقطة الثانية هي تنظيم الطعام في مكان العمل. كثير من الناس يتناولون وجبات سريعة أو حلويات أثناء العمل بسبب الضغط أو التعب، وهذا ما يرفع السكر سريعًا. من الأفضل أن يحمل الإنسان معه طعامًا خفيفًا وصحيًّا مثل الفواكه، الخضار المقطّعة، المكسرات غير المملحة، أو ساندويش بسيط بخبزٍ أسمر. ويُستحسن تناول الطعام في وقت محدد كل يوم، ولو وجبة صغيرة، لأنّ الجسم يحبّ النظام.
شرب الماء الكافي
النقطة الثالثة هي شرب الماء الكافي. الجفاف يرفع تركيز السكر في الدم دون أن نشعر. لذلك يُنصح أن تبقى قنينة الماء على الطاولة دائمًا، وأن يشرب الإنسان قليلًا كل نصف ساعة.
الهدوء النفسي
أما النقطة الرابعة فهي الهدوء النفسي. الضغط في مكان العمل يزيد إفراز هرمونات ترفع السكر في الدم، حتى من دون طعام. لذلك يحتاج الإنسان إلى فترات قصيرة من الراحة، تنفّسٍ عميقٍ، ليعيد توازنه الداخلي. هذه الدقائق القليلة تقيه من التوتر، وتحميه من اضطراب السكر.
الاهتمام بهذه التفاصيل الصغيرة يجعل مكان العمل بيئةً صحيّة، يشعر فيها الإنسان بالنشاط والرضا، ويستطيع أن يعيش مع السكّري بسلام، لا بخوف.
النوم الكافي
السهر الطويل يربك الهرمونات المسؤولة عن ضبط السكر، ويزيد الشعور بالجوع والتعب. والنوم المنتظم يجعل الجسم أكثر قدرة على التوازن.
الفحص المبكر
كثير من الناس يكتشفون المرض متأخرين لأنّهم لا يجرون تحاليل دورية. من المهمّ أن يقيس الإنسان مستوى السكر في الدم ولو مرة كل ستة أشهر، خاصة إذا كان في العائلة من يعاني من السكّري. الاكتشاف المبكر يجعل العلاج أسهل بكثير.
الابتعاد عن التدخين
ويجب ألا ننسى نصيحة مهمّة جدًا وهي الابتعاد عن التدخين. فالتدخين لا يضرّ الرئتين فقط، بل يؤثر مباشرةً في الأوعية الدموية ويجعل الجسم أقلّ قدرة على استعمال الأنسولين. والمدخّن المصاب بالسكري يكون أكثر عرضة لمشاكل القلب والكلى والعيون. والإقلاع عن التدخين هو من أعظم القرارات التي يمكن أن يتخذها الإنسان من أجل نفسه وعائلته، وهو باب من أبواب التوبة الصحية والروحية في آنٍ واحد.
الخاتمة
السكّري يمكن التعايش معه بسهولة إذا تعاملنا معه بوعي واهتمام. الاهتمام بالغذاء، والنوم الكافي، والحركة اليومية، والابتعاد عن التدخين، كلها خطوات بسيطة لكنها تصنع فرقًا كبيرًا. المهم أن نبدأ اليوم، لا غدًا. صحتك مسؤوليتك، واحترامك لجسدك هو طريقك لحياة هادئة ومتوازنة.
1. وسائل الشيعة / الشيخ حرّ العاملي / الطبعة الإسلامية / المجلد : 2 / الصفحة: 624.
2. بحار الأنوار / : العلامة المجلسي / الطبعة دارالاحیاء التراث / المجلد : 78 / الصفحة : 204.








التعلیقات