صلاة ودعاء ليلة الزواج في روايات أهل البيت عليهم السلام
الشيخ مهدي المجاهد
منذ ساعةيحظى الزواج في الإسلام بمكانة خاصة، فهو ليس مجرد رابطة اجتماعية أو عقد شرعي فحسب، بل مشروع حياة متكامل تُبنى عليه الأسرة التي تشكّل نواة المجتمع. ومن هنا جاءت عناية الشريعة الإسلامية بتفاصيل هذا الحدث منذ لحظاته الأولى، ولا سيما ليلة الزفاف، التي تُعدّ نقطة التحوّل من حياة الفرد إلى حياة الشراكة والمسؤولية المشتركة.
وقد نقلت لنا روايات النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام صورة واضحة عن كيفية التعامل مع هذه الليلة، ليس بوصفها ليلة شهوة أو مظهر احتفال فقط، بل باعتبارها ليلة عبادة وذكر ودعاء، يُطلب فيها السكن والطمأنينة حيث قال الله تعالى : ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )﴾ (1)، وتُستجلب فيها البركة، ويُؤسَّس فيها لمسار طويل من العشرة والمعروف. فالإنسان في هذه الليلة يكون أحوج ما يكون إلى عون الله، وإلى توجيه يضبط مشاعره، ويهذّب سلوكه، ويجعله واعياً بحجم الأمانة التي دخل فيها.
ومن خلال تتبع الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، نلاحظ أنها تجمع بين البعد الروحي، والنفسي، والاجتماعي، بل وحتى الصحي، في توجيه الزوجين إلى ما فيه صلاح دينهما ودنياهما. وفي هذه المقالة نستعرض جملة من تلك الروايات الشريفة المتعلقة بليلة الزفاف، مع شرح مبسّط يقرّب معانيها، ويبيّن حكمتها، دون الخروج عن نصوصها الأصلية أو مصادرها، سائلين الله تعالى أن يجعل في ذلك نفعًا وفائدة.
أولًا: استحباب أن يكون الزفاف ليلًا
ورد في الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : « زُفّوا عَرائِسَكُم لَيلًا، و أطعِموا ضُحىً » (2).
ونقل لنا الحسن بن علي الوشّاء عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ : « مِنَ السُّنَّةِ التَّزويجُ بِاللَّيلِ؛ لِأَنَّ اللّهَ جَعَلَ اللَّيلَ سَكَنا، وِ النِّساءُ إنَّما هُنَّ سَكَنٌ » (3).
تشير هاتان الروايتان إلى بُعدٍ نفسي وروحي في اختيار وقت الزفاف. فالليل زمن السكون والهدوء، وفيه يبتعد الإنسان عن ضجيج النهار وتوتره، مما يساعد على الألفة والطمأنينة بين الزوجين. كما أن تشبيه المرأة بالسكن ينسجم مع طبيعة الليل، فيكون اجتماع السكنين في وقت السكون أدعى للاستقرار وبداية هادئة للحياة الزوجية.
ثانيًا: الصلاة والدعاء عند دخول الزوجة
جاء في الخبر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: « إذا زُفَّت إلى الرَّجُلِ زَوجَتُهُ و ادخِلَت إلَيهِ فَليُصَلِّ رَكعَتَينِ وَ ليَمسَح عَلى ناصِيَتِها (4)، ثُمَّ لِيَقُل: اللّهُمَّ بارِك لي في أهلي و بارِك لَها فِيَّ، و ما جَمَعتَ بَينَنا فَاجمَع بَينَنا في خَيرٍ و يُمنٍ و بَرَكَةٍ، و إذا جَعَلتَها فُرقَةً فَاجعَلها فُرقَةً إلى كُلِّ خَيرٍ.
ثُمَّ لِيَقُل: الحَمدُ للّهِ الَّذي هَدى ضَلالَتي، و أغنى فَقري، و نَعَشَ خُمولي، و أعَزَّ ذِلَّتي، و آوى عَيلَتي، و زَوَّجَ عُزبَتي، و أخدَمَ مِهنَتي، و آنَسَ وَحشَتي، و رَفعَ خَسيسَتي، حَمدا كَثيرا طَيِّبا مُبارَكا عَلى ما أعطَيتَ يا رَبِّ، و عَلى ما قَسَمتَ، و عَلى ما أكرَمتَ» (5).
تبيّن هذه الرواية أن أول ما يُستحب في ليلة الزفاف هو الصلاة والدعاء، أي ربط العلاقة الجديدة بالله تعالى منذ لحظتها الأولى. فالصلاة تعبير عن التوجه الصادق، والدعاء طلب للبركة والاستمرار في الخير، حتى في حال الفراق إن قُدّر. كما أن كلمات الحمد تعكس شعور الإنسان بنعمة الزواج، وتذكّره بأن ما حصل عليه هو فضل إلهي لا مجرد إنجاز شخصي.
ثالثًا: الدعاء بطلب الذرية الصالحة
ونقل لنا ابو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: « إذا دَخَلتَ بِأَهلِكَ فَخُذ بِناصِيَتِها وَ استَقبِلِ القِبلَةَ و قُل: اللّهُمَّ بِأَمانَتِكَ أخَذتُها، و بِكَلِماتِكَ استَحلَلتُها، فَإِن قَضَيتَ لي مِنها وَلَدا فَاجعَلهُ مُبارَكا تَقِيّا مِن شيعَةِ آلِ مُحَمَّدٍ، و لا تَجعَل لِلشَّيطانِ فيهِ شِركا و لا نَصيبا» (6).
تركّز هذه الرواية على نية الإنسان في الزواج، وأن يكون هدفه تأسيس أسرة مؤمنة. فالدعاء هنا لا يقتصر على العلاقة الزوجية، بل يتعداها إلى طلب الذرية الصالحة، وربطها بالولاء لأهل البيت عليهم السلام، مع الاستعاذة من تأثير الشيطان، وهو ما يرسّخ البعد الإيماني في بناء الجيل القادم.
رابعًا: صلاة الزوجين قبل الاجتماع
مكارم الأخلاق عن الأئمّة عليهم السلام: « إذا قَرُبَ الزَّفافُ يُستَحَبُّ أن تَأمُرَها أن تُصَلِّيَ رَكعَتَينِ استِحبابا، تَكونُ عَلى وُضوءٍ إذا ادخِلَت عَلَيكَ، و تُصَلّي أنتَ أيضا مِثلَ ذلِكَ. و تَحمَدُ اللّهَ و تُصَلّي عَلَى النَّبِيِّ و آلِهِ و تَقولُ: اللّهُمَّ ارزُقني إلفَها و وُدَّها و رِضاها بي و أرضِني بها، وَ اجمَع بَينَنا بِأَحسَنِ اجتِماعٍ و أيسَرِ ائتِلافٍ، فَإِنَّكَ تُحِبُّ الحَلالَ و تَكرَهُ الحَرامَ » (7).
تُبرز هذه الرواية قيمة المشاركة الروحية بين الزوجين منذ البداية. فالصلاة المشتركة والدعاء المتبادل يخلقان جوًا من المودة والتفاهم، ويؤكدان أن العلاقة قائمة على الحلال، وأن الانسجام الحقيقي هو ما يُبنى على رضا الله تعالى.
خامسًا: آداب استقبال العروس والبركة في البيت
كتاب من لا يحضره الفقيه عن أبي سعيد الخدري:
«أوصى رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام فَقالَ: يا عَلِيُّ، إذا دَخَلَتِ العَروسُ بَيتَكَ فَاخلَع خُفَّيها حينَ تَجلِسُ، وَ اغسِل رِجلَيها، و صُبَّ الماءَ مِن بابِ دارِكَ إلى أقصى دارِكَ؛ فَإِنَّكَ إذا فَعَلتَ ذلِكَ أخرَجَ اللّهُ مِن بَيتِكَ سَبعينَ ألفَ لَونٍ مِنَ الفَقرِ، و أدخَلَ فيها سَبعينَ ألفَ لَونٍ مِنَ البَرَكَةِ، و أنزَلَ عَلَيهِ سَبعينَ رَحمَةً تُرَفرِفُ عَلى رَأسِ العَروسِ حَتّى تَنالَ بَرَكَتَها كُلُّ زاوِيةٍ في بَيتِكَ، و تَأمَنَ العَروسُ مِنَ الجُنونِ وَ الجُذامِ وَ البَرَصِ أن يُصيبَها ما دامَت في تِلكَ الدّارِ، وَ امنَعِ العَروسَ في اسبوعِها مِنَ الأَلبانِ وَ الخَلِّ وَ الكُزبَرَةِ وَ التُّفّاحِ الحامِضِ مِن هذِهِ الأَربَعَةِ الأَشياءِ ، فَقَالَ عَلِيٌّ عليه السلام يَا رَسُولَ اللَّهِ وَ لِأَيِّ شَيْءٍ أَمْنَعُهَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْأَرْبَعَةَ، قَالَ لِأَنَّ الرَّحِمَ تَعْقَمُ وَ تَبْرُدُ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْيَاءِ عَنِ الْوَلَدِ… » (8).
تجمع هذه الرواية بين الجانب المعنوي والاجتماعي، حيث تشير إلى أعمال رمزية تهدف إلى إدخال البركة إلى البيت الجديد، وإشاعة الطمأنينة في نفس العروس. كما تتضمن توجيهات صحية مرتبطة بمرحلة الزواج الأولى، بما يعكس شمولية التعاليم الإسلامية واهتمامها بالتفاصيل الدقيقة لحياة الإنسان.
خاتمة
إن المتأمل في روايات أهل البيت عليهم السلام الواردة في شأن ليلة الزفاف يدرك بوضوح أن الإسلام لا ينظر إلى الزواج بوصفه علاقة وقتية أو استجابة لحاجة فطرية فحسب، بل يراه ميثاقًا عظيمًا يبدأ من لحظة الدخول، ويُراد له أن يمتد أثره إلى العمر كله. ولذلك جاءت هذه التوجيهات الدقيقة لتضبط بداية الطريق، لأن البداية الصحيحة كثيرًا ما تكون ضمانة للاستمرار السليم.
لقد ركّزت هذه الروايات على إحضار الله تعالى في قلب هذه الليلة، من خلال الصلاة، والدعاء، والحمد، والاستعانة، وكأنها تريد أن تقول للزوجين إن السعادة الزوجية لا تُبنى على الانفعال وحده، ولا على العاطفة العابرة، بل على وعيٍ بالمسؤولية، وشعورٍ بالنعمة، وربطٍ دائم بين الحياة الزوجية والبعد الإيماني. فحين يبدأ البيت بذكر الله، ويُؤسَّس على الطهارة والنية الصالحة، فإن البركة تكون أقرب، والاختلاف أهون، والرحمة أوسع.
كما تكشف هذه الروايات عن نظرة إنسانية عميقة للزوجة، حيث تُعامَل بوصفها أمانة وسكنًا وشريكة حياة، لا مجرد طرف في علاقة. ويظهر ذلك في الدعاء لها، والرفق بها، والحرص على طمأنينتها النفسية والجسدية، وهو ما يعكس أخلاق الإسلام في بناء العلاقة الزوجية على الاحترام والمودة لا على التسلط أو الإهمال.
وفي زمن كثرت فيه الاضطرابات الأسرية، وتراجعت فيه القيم أمام العادات أو المؤثرات الدخيلة، تصبح العودة إلى هدي أهل البيت عليهم السلام ضرورة لا ترفًا. فهي عودة إلى منهج يوازن بين الروح والجسد، وبين العاطفة والعقل، وبين الحق والواجب. ومن هنا، فإن إحياء هذه السنن في ليلة الزفاف ليس مجرد التزام مستحب، بل خطوة واعية نحو تأسيس أسرة مستقرة، ومجتمع أكثر تماسكًا، وأجيال تنشأ في ظل بيوت ابتدأت باسم الله، وسارت على بركته.
1. سورة الروم : الآية 21.
2. الكافي / الشيخ الكليني / المجلّد : 5 / الصفحة : 366 / ط الاسلامية.
3. الكافي / الشيخ الكليني / المجلّد : 5 / الصفحة : 366 / ط الاسلامية.
4. الناصِيَةُ: قُصاص الشعر فوق الجبهة ( مجمع البحرين: ج 3 ص 1795« نصا»).
5. دعائم الإسلام / القاضي النعمان المغربي / المجلّد : 2 / الصفحة : 211.
6. الكافي / الشيخ الكليني / المجلّد : 5 / الصفحة : 501 / ط الاسلامية.
7. مكارم الاخلاق / رضي الدين الطبرسي / المجلّد : 1 / الصفحة : 208.
8. من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصدوق / المجلّد : 3 / الصفحة : 552.









التعلیقات