السيدة طوعة بطلة الكوفة
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 6 سنواتيستطيع الإنسان أن يخلدَ نفسه في التاريخ، ويكون ممدوحا عند جميع من يطالع سيرته من أجل مواقفه والاعتبار بها، بل ولو لموقف واحد في حياته كما إذا استفاد من فرصة واحدة وسجل لنفسه موقف إيجابي، ومن هؤلاء الذين سجلوا لأنفسهم مواقف مشرفة في تاريخ حتى أن بقي ذكرهم على الألسن، ويتحدث عنهم وعن شجاعتهم وبسالتهم هي السيدة الطوعة سلام الله عليها.
هي أول أمراة مضحية ومجاهدة في سبيل نهضة سيد الشهداء صلوات الله عليه في ظرف تقاعس الرجال الأشداء، وخافوا من مكر بني أمية وتهديدات عبيد الله بن زياد، لكن هذه المرأة المؤمنة لم تبالي لتلك التهديدات، وما إن سمعت باسم مسلم بن عقيل سفير الإمام الحسين صلوات الله عليه على باب منزلها وفرت له الحماية والأمن بعيداً عن أعين السلطات، بعد أن كان متحيراً لا يدري إلى أين يلتجأ في تلك الغربة في أزقة الكوفة، وها هي نقضتها عهدها تلك القبائل والعشائر بعد أن بايعته.
(كانت طوعة جارية للأشعث بن قيس الكندي، أعتقها فتزوجها أسيد بن مالك) (1) وبعد بلوغها مبلغ النساء اقترنت بالأشعث بن قيس لفترة من الزمن، ثم انفصلت عنه بسبب بغضه لآل البيت عليهم السلام، وبعد انفصالها عنه اقترنت بأسيد بن مالك، وكان هذا أيضاً من خصوم آل البيت عليهم السلام، وقد طلبت الانفصال منه إلا أنه رفض ذلك، بل أنه أخذ يسيء لها كثيراً بسبب حبها لآل البيت، لكنها صبرت على محنتها، كما أن هذا الوغد كان أحد حراس عبيد الله بن زياد ومن المقربين له، وابنها بلال أيضا كان على مسلك أبيه، لكن عداء هذين لأهل البيت عليهم السلام لم يؤثر على ولاء هذه المرأة المؤمنة، فقامت بما تخلى عنه ذوو النفوس الضعيفة. وهي بهذا الموقف تشبه السيدة آسيه بنت مزاحم زوجة فرعون، ومع أنها كانت تعيش مع طاغية العصر، لكنها كانت ملجأ أمان للنبي موسى عليه السلام، ولتضحياتها وأعمالها صارت مضرب مثل في القرآن الكريم: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).(2)
وأما قصة السيدة طوعة مع مسلم بن عقيل عليه السلام، فتتحدث الأخبار بعد أن خانت الكوفه به خرج من المسجد فالتفت فإذا هو لا يجد أحدا يدله على الطريق، ولا يدله على منزله، ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو. فمضى على وجهه متلددا في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب، حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها: طوعة، وكان بلال ابنها قد خرج مع الناس فأمه كانت تنتظره، فسلم عليها ابن عقيل فردت عليه السلام، فقال لها: يا أمة الله اسقيني ماء، فسقته، وجلس، وأدخلت الأناء، ثم خرجت، فوجدته ما زال واقفا بباب بيتها؛ فقالت: يا عبد الله ألم تشرب؟ قال: بلى، قالت: فاذهب إلى أهلك، فسكت، ثم أعادت مثل ذلك، فسكت، ثم قالت له في الثالثة: سبحان الله ! يا عبد الله قم عافاك الله إلى أهلك، فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي، ولا أحله لك.
فلما انتهى كلامها إلى هذا القول قام، وقال: يا أمة الله ما لي في هذا البلد منزل ولا عشيرة، فهل لك أجر ومعروف وتؤويني في بيتك؟ ولعلي مكافئك بعد اليوم، فقالت له: من أنت يا عبد الله وما ذاك؟ قال: أنا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم، وغروني، وأخرجوني، قالت: أنت مسلم؟ قال: نعم، قالت: ادخل، فأدخلته في دار معزولة في بيتها، فرحبت به، وعرضت عليه العشاء، فلم يأكل. وسرعان ما جاء ابنها، فرآها تكثر الدخول والخروج من تلك الدار، فقال لها: والله إنه ليريبني كثرة دخولك هذه الدار منذ الليلة وخروجك منها، إن لك لشأنا، قالت: يا بني اله عن هذا، قال: والله لتخبرينني، قالت: أقبل على شأنك، ولا تسألني عن شئ، فألح عليها فقالت: يا بني لا تخبرن أحدا من الناس بشئ مما أخبرك به، قال: نعم، فأخذت عليه الأيمان فحلف لها، فأخبرته فاضطجع، وسكت. وعند الصباح ذهب، وأخبر عن مكان مسلم بن عقيل عليه السلام، ولما قربت الجيوش من دار طوعة علم مسلم بن عقيل عليه السلام أنها قد أتت لحربه، فسارع إلى فرسه فأسرجها، وألجمها، ولبس درعه، وتقلد سيفه، والتفت إلى السيدة الكريمة طوعة، فشكرها على حسن ضيافتها، ولم تتركه طوعة عند هذا الحد، بل كانت تشجعه، وتقوي من عزيمته حتى أنه كان من قوته يأخذ الرجل من محزمه، ويرمي به فوق البيت.(3)
نعم، هذه أول سيدة كانت في ركب الحسيني، فضحت بكل ما تملك؛ لأجل أن تطلب الرضا من آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين، وأيضا صارت مضرب مثل في تلك الفترة التي عم الخوف على الكوفة بأجمعها، لكن هذه المرأة المؤمنة وقفت موقف الأبطال، ولم تبالي لتلك التهديدات.
ـــــــــــــــــ
1ـ تاريخ الطبري: ج 5، ص 371.
2ـ سورة التحريم: 11.
3ـ الأرشاد: ج 2، ص 54.
التعلیقات