ميزان حب الأبناء في القرآن
موقع المستشار
منذ 10 سنواتإنّ من أصدق وأسمى العلاقات العاطفية التي حبا الله تعالى بها البشر، تلك العلاقة القائمة بين
الوالدين والأبناء، والتي تظهر ارتباطاً فطرياً قوياً لا يمكن فكّ وثاقه، وإن وُجدت حالات ومشاهدات مخالفة لهذه الفطرة، مردّها الجهل والعناد من قبل الوالدين، أو الغفلة وسوء التربية من جهة الأبناء.لقد أولى الإسلام عناية وأهمية بالغة لهذه الرابطة العاطفية...
...واعتبرها من القيم الإلهية الموصلة الى رضا الله تعالى في الدنيا والآخرة, لذلك نجد أن القرآن الكريم قد وضع موازين وضوابط لهذه العاطفة حتى تكون بنّاءة ومثمرة.إن اختلاف مفهوم الحبّ والحاجة إليه ما بين الوالدين والأبناء أمر طبيعي بحسب الأدوار, لذا نجد أن القرآن الكريم خاطب الوالدين بأسلوب ردع وتحذير وتنبيه من الإنجرار الكامل وراء هذه العاطفة وإطلاق العنان لها، وفي المقابل كان واضحاً صريحاً شديد اللهجة في مخاطبة الأبناء بوجوب الإحسان والرحمة والمداراة للوالدين .إذ يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة(1) , وهنا يتضح أن الحكمة الإلهية اقتضت طلب الأولاد عن طريق الزواج وثمرته، أولئك الأولاد الذين أوجد الله تعالى محبتهم في قلب الوالدين, فنجد أن عاطفة الأبوّة والأمومة جيّاشة تفيض حباً وحناناً لا حدود له. فالوالدان يستعذبان التعب و السهر والعناء وحتى الحرمان لرعاية الأبناء وتقديم التضحيات الواحدة تلو الأخرى، ورغم ذلك ترى البسمة تعلو القلوب قبل الوجوه. غير أن حبّ الأبناء قد يصبح جارفاً، فيسيطر على كيان الأبوين وفكرهما، ويوقعهما في الغفلة عن ذكر الله تعالى والإشتغال عنه وطلب رضاه بحبّ الأبناء ونيل رضاهم. ولأن الانجرار المطلق خلف هذة العاطفة الأبوية قد يكون فيها خسران الأبوين للسعادة الحقيقية في جانب القرب الإلهي, كان الإرشاد القرآني والتنبيه للحذر من اشتغال القلب المطلق بالأبناء، حيث تقول الآية الكريمة إنّما أموالكم وأولادكم فتنة (2)، أي الإفتتان بحبّ الأبناء من جرّاء التوهّم أنهم مصدر الحب والعزة في هذه الدنيا، بينما حين تتقطّع الأسباب يوم القيامة، لا تنفع بنوّة البنين والقرابة، لقوله تعالى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من آتى الله بقلب سليم (3).وفي المعرض نفسه، يقول تعالى في قرآنه العزيز يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون (4). ويأتي هذا التنبيه لأن الطبيعة البشرية قائمة على الالتهاء بما تحب وما يشغلها في هذه الدنيا، وهذا يصرف القلب عن حب الله تعالى وطاعته، ومن نسي الله تعالى فإن الله ينساه، وفي هذا خسران كبير.كما يبيّن الله تعالى في قرآنه أن التعلق بحبّ الأبناء وعقد الآمال على هذا الحبّ الذي قد ينتفع به الوالدان، أن الدنيا قد لا تحقق هذه الآمال، فزينتها وهمٌ زائل، وهي لا تثيب ولا تنفع في الآخرة, لذلك يقول تعالى المال والبنون زينة الحياة الدنيا (5).صحيح أن حبّ الوالدين لأبنائهم أمر مهم وضروري في تربية هؤلاء وإشباع حاجاتهم المعنوية والعاطفية, لكن بما أن عاطفة الوالدين مرهونة لغريزة الأبوّة و الأمومة الجامحة، فإن القرآن الكريم جاء ليوجّهها ويحدّ من اندفاعها العاطفي المُطلق، الذي قد يكون سبباً في ضعف الإيمان, وقد جاء في حديث للإمام علي عليه السلام الى رجل: إن يكن أهلك وولدك أولياء الله، فإن الله لا يضيع أولياءه، وإن يكونوا أعداء الله، فما همّك وشغلك بأعداء الله (6).في المقلب الآخر، نجد أن القرآن الكريم يأمر الأبناء بهذا الحب وبالتعلق بالوالدين بخطاب صريح, حيث يقول سبحانه وتعالى وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إيّاه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا (7).إن الآية بمجملها تدلّ على وجوب إكرام الوالدين, فقد جعل الله تعالى الأمر بالإحسان الى الوالدين مباشرة بعد الأمر بتوحيده، وهذه منزلة رفيعة لهما قلّما يدرك الأبناء أبعادها, فهم بالرغم من تعلقهم العاطفي بالوالدين، إلا أن هذا التعلّق تشوبه أنانية الكسب التي اعتادوها من آبائهم, ويتانسون مراحل عجزهم عن تحصيل لوازم الحياة والبقاء، التي تحمّل الوالدان مشقّاتها وألمها بكل حبّ ممكن معتقديْن أن هؤلاء الأبناء سيكونوا رحماء بهم عند كبرهم، بينما قد ينصرف الأبناء الى شؤون حياتهم الخاصة واستقلالهم المعيشي والمالي وتكوين أسر لهم, وهذا الإنصراف والإشتغال يجعلهم يغفلون عن تقديم الحبّ والرعاية للوالدين، مبرّرين لأنفسهم تسامح الوالدين وعظيم محبتهم. لذلك كان الأبناء بحاجة إلى تنبيه وتوجيه صارم من جانب الشريعة لدفعهم باتجاه الإحسان والعناية بالوالدين, إذ يقول الله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه حسنا (8).لقد ورد عن أبي عبد الله عليه السلام عن قول الله تعالى وبالوالدين إحسانا: الإحسان أن تحسن صحبتهما ولا تكلفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيان عنه (9). وكما أن الإحسان على الوالدين له قيمته ومكانته في الإسلام وله آثار إيجابية في الدنيا والآخرة ,
فكذلك عقوقهما يُعدّ جريمة كبرى، وله آثاره السلبية في الدنيا والآخرة.هكذا يتبين كيف دفع الله تعالى بالأبناء الى حبّ الوالدين والبرّ بهما, كما أنه ينبغي للوالدين التدريب المبكر للأبناء على الاحترام والإهتمام والطاعة المرهونة للمحبة.
(1) سورة النحل, الآية72
(2) سورة الأنفال, الآية 28
(3) سورة الشعراء, الآية 88
(4) سورة المنافقون, الآية 9
(5) سورة الكهف, الآية 46
(6) نهج البلاغة, ج4, ص93
(7) سورة الإسراء, الآية 23/24
(8) سورة العنكبوت, الآية 8
(9) أصول الكافي
التعلیقات