مواقف الإمام الحسين(ع) السامية مع المرأة (٢)
موقع ممهدات
منذ 10 سنوات
عاطفة الأبوة
يروي لنا التاريخ أن الإمام الحسين(ع) ودّع عياله فنادى "يا سكينة، يا فاطمة،
يا زينب، يا أم كلثوم، عليكنّ مني السلام" فنادته سكينة: يا أبه استسلمت للموت؟ فقال لها:
"يا نور عيني، كيف لا يستسلم للموت من لا ناصر له ولا معين ..... الخ".
وعند تأملنا هذه الرواية التاريخية نقف إجلالًا واحترامًا وحبًا لهذا الأب العطوف الذي يحرص على مخاطبة ابنته بهذه الصيغة المليئة بالعاطفة والحنو فيرسم لنا نهجًا في التعامل الأبوي مع البنت ورقتها وكيفية مداراتها.
سلوكه معها: الإمام يزوج ابنته
روى أنّ الحسن خطب إلى عمّه الحسين(ع) إحدى ابنتيه، فقال له الحسين(ع):
"إختر يا بُنَي أحبّهما إليك".
فاستحيى الحسن ولم يحر جوابًا، فقال له الحسين(ع):
"فإني قد اخترت لك ابنتي فاطمة، فهي أكثرهما شَبَهًا بأمّي فاطمة بنت رسول الله(ص)"(6).
من خلال هذه الصورة نستخلص فوائدًا ودروسًا مهمة:
أ. ان الإمام الحسين(ع) بقوله لابن أخيه الحسن(ع):
"اختر يا بني أحبهما إليك".
يؤكد لنا أنّ بناء الأسرة يعتمد على الحب والاحترام، ويبين لنا أيضًا أن الرجل إذا ارتبط بامرأة يحبها سيسعد بها وتسعد به تطبيقًا لقول الإمام الحسن المجتبى(ع) عندما استنصحه رجل في تزويج ابنته فقال له:
"زوجها مؤمنًا فإنّه إن أحبها أكرمها وإن أبغضها لا يظلمها".
فالرجل الذي يتزوج امرأة يحبها سيكرمها ويسعدها لكي ينعم بحياة هنيئة معها.
ب. قول الإمام الحسين(ع) "أحبهما إليك" لا يقصد الحب المتعارف المبني على الشهوة لخروج هذا النوع من الحب عن الحب الإيماني، بل لعله يقصد ما تميل إليه النفس وتختاره من صفات المرأة وكما لها بدليل قوله(ع):
"اخترت لك ابنتي فاطمة فهي أكثرهما شبهًا بأمي فاطمة بنت رسول الله(ص)".
ج. قوله(ع) "اخترت لك ابنتي فاطمة" يدلنا على ضرورة أن يختار الأب الزوج الكفوء لابنته وأن يختار الزوجة الكفؤ لولده، ولا بد أن يكون هذا الاختيار مبني على الموازين الشرعية.
د. تصرف الامام الحسين(ع) دون الرجوع إلى رأي ابنته يخبرنا عن تفويض البنت أمر تزويجها لأبيها المعصوم من الخطأ، وإحراز عدم الاعتراض على رأي المعصوم والتسليم والانقياد لرأيه.
مشورة الإمام(ع) في التزويج
روي أن رجلًا صار إلى الحسين(ع) فقال: جئتك أستشيرك في تزويجي فلانة.
فقال(ع): "لا أحب ذلك لك"، وكانت كثيرة المال وكان الرجل أيضًا مكثرًا، فخالف الحسين(ع) فتزوج بها، فلم يلبث الرجل حتى افتقر، فقال له الحسين(ع): "قد أشرتُ إليك، فخلّ سبيلها، فإنّ الله يعوّضك خيرًا منها"، ثم قال: "وعليك بفلانة"، فتزوجها، فما مضت سنة حتى كثر ماله، وولدت له ولدًا ذكرًا، ورأى منها ما أحب.
نستخلص من هذه الرواية ما يلي:
أ. استحباب المشورة في أمر مهم كالتزويج ولا سيما إذا كان المستشار من أولى الألباب فكيف إذا كان المستشار معصومًا؟
ب. قول الإمام(ع): "لا أحب ذلك لك" كأنما يشير إلى عدم نجاح هذا الزواج لأسباب قد تكمن في المرأة أو في الظروف والعوامل المحيطة بها، وما يؤكد ذلك قوله(ع): "فإن الله يعوضك خيرًا منها". ولم ينهِ الإمام(ع) الرجل نهيًا مولويا إنما هو نهي إرشادي فحسب.
ذوق الإمام الحسين(ع)
روى أنس قال: كنتُ عند الحسين(ع) فدخلت عليه جارية بيدها طاقة ريحان، فحيّته بها، فقال لها: أنت حرّة لوجه الله تعالى.
وبَهَرَ أنس، فانصرف يقول: جارية تجيئك بطاقة ريحان، فتُعْتِقُها؟!
فقال الحسين(ع):
كذا أدّبنا الله، قال تبارك وتعالى:
«وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا»(7).
وكان أحسن منها عِتْقُها(8).
هذه الرواية التاريخية مُلئت ذوقًا وأريحية عالية من قبل المرأة إزاء الرجل الذي استحق احترامها وتوقيرها وكان أهلًا لتحيتها الرقيقة، فكان رد التحية بأحسن وأرقى وأنبل وأكثر سخاء وأرفع ذوقًا من التحية وذاتها، وإن دل هذا على شيء فإنما يدلّ على أن الخلق الحسن ينتج دائمًا ردًا أحسن وثمرة أنفع وربحًا أوسع.
الإمام(ع) يلقم الجاهل حجرا
كان لمعاوية جواسيس بالمدينة يكتبون إليه أمور الناس، فكتب إليه أحدهم أنّ الحسين أعتق جارية له وتزوجها. فكتب معاوية إلى الإمام الحسين(ع) يعيّره ويعيبه. فردّ عليه الإمام الحسين(ع) بالرسالة التالية:
"أما بعد فقد بلغني كتابك وتعييرك إياي بأني تزوّجتُ مولاتي -أي الأمة- وتركت أكفائي من قريش. فليس فوق رسول الله(ص) منتهى في شرف ولا غاية في نسب، وإنما كانت يميني خرجت من يدي بأمر التمست فيه ثواب الله. ثم أرجعتها على سنّة نبيه (ص)
وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة ووضع عنّا به النقيصة، فلا لوم على امرئ مسلم إلاّ في مأثم، وإنّما اللّوم لوم الجاهلية"(9).
هذه الرواية تفضح جهل أبناء الطلقاء، وتبين علم أبناء الأنبياء، أين معاوية من السبط؟ وأين الجهل من العلم؟ وأين الجاهلية من الإسلام؟ نكتفي بالرواية دون تعليق لوضوح مضمونها.
إغاثة المستضعفين
ذكر المؤرخون: لما وصل الحسين(ع) إلى صحراء الثعلبية في طريقه إلى كربلاء شاهد خيمة متردّية تعبّر عن فقر ساكنها، فدنا إليها فرأى هناك امرأة كبيرة السنّ، عليها ثياب رثّة لشدة فقرها، فسألها عن حالها.
فقالت: إنها قد أضّر بها وبأغنامها الجفاف، وأن ابنها (وهب) وزوجته (هانية) ذاهبان بحثًا عن الماء.
فأقلع الإمام الحسين(ع) صخرة في مكانه فخرج من تحتها نبع من الماء الزلال، فسرّت المرأة وشكرت الإمام(ع)، ثم واصل الإمام طريقه إلى كربلاء.
وحينما جاء ابنها (وهب) فرأى ذلك انبرى مندهشًا يسأل أمّه من أين حصل هذا؟
فأخبرته بالأمر، وكان الابن في ليلته قد رأى في المنام الإمام الحسين(ع).
فقال لأمّه فورًا: قومي لنلتحق به. فتحرّك وهب وأمّه وزوجته- وكانوا على دين المسيح(ع)- حتى وصلوا إلى قافلة الحسين(ع)، فأسلموا على يديه، وكان وهب مع الحسين(ع) في يوم عاشوراء واحدًا من الشهداء السعداء.
لم يتجاهل الإمام الحسين(ع) هذه المرأة ولم يزدرِ فقرها وحالها بل بادر إلى إغاثتها ومساعدتها بما وهبه الله تعالى من ولاية تكوينية لكي يدخل السرور عليها ويطبق شعار الإسلام الحنيف:
"خير الناس من نفع الناس".
فقدّم الخير دون أن يعرف هوية هذه المرأة ودون أن يعرف موقفها من الإمامة والولاية.
حرصه على نساء المؤمنين
قال الحسين(ع) في ليلة عاشوراء لأصحابه:
"ألا ومَن كان في رحله امرأة فلينصرف بها إلى بني أسد".
فقام علي بن مظاهر وقال: ولماذا يا سيدي؟ فقال(ع):
"إن نسائي تُسبى بعد قتلي وأخاف على نسائكم من السبي".
لو أمعنا النظر في هذه الرواية لأدركنا مدى رقة الإمام(ع) وحرص على سلامة المرأة المؤمنة، وللمسنا غيرته العلوية على عفة المرأة وحشمتها.
______________________
(1) نهج البلاغة: ج٤، ص ٩٣.
(2) ميزان الحكمة، محمد الريشهري: ج٣، ص ٢٣٧٧.
(3) كامل الزيارات: ٩٦. بحار الأنوار: ٤٥/٨٨. أعيان الشيعة: ١/٥٨٨. مقتل الحسين(ع) للمقرم: ١٥٢. مدينة المعاجز: ٤/١٧٧.
(4) معالي السبطين: ١/٢١٤.
(5) تاريخ الطبري: ٣/٣١٦. الإرشاد:٢٣٢. الكامل في التاريخ"٢/٥٦٠. البداية والنهاية" ٨/١٩١ مع الاختلاف والاختصار. بحار الأنوار: ٤٥/١. العوالم: ١٧/٢٤٥. مستدرك الوسائل: ٢/٤٥٢.
أعيان الشيعة: ١/٦٠١ أضاف قبل أبي خير من "جدي خير مني" وأضاف في الأشعار "ما أقرب الوعد من الرحيل:. وقعة الطف: ٢٠٠ وفي بعض المصادر: "سالك سبيلي".
(6) كشف الغمة: ١/٥٧٩. مقاتل الطالبين: ١٨٠. الأغاني: ٢١/١١٥.
(7) سورة النساء، الآية: ٨٦.
(8) حياة الإمام الحسين(ع): ج١، ص١٢٩، نقلًا عن الفصول المهمة لابن الصباغ: ص١٨٤.
(9) موسوعة المصطفى والعترة للشاكري: ج٦/ص٩١.
التعلیقات