سكينة (سلام الله عليها) خيرة نساء عصرها
الشيخ محمد الياس
منذ 9 سنوات
"لا تحرقي قلبي بدمعك يا خيرة النسوان" هذا قول الإمام الحسين عليه السلام عندما جاء (عليه السلام) في لحظاتها الأخيرة ليودّع عقائل النبوة، ومخدرات الرسالة، ويخفّف عنهم صدمة المصاب وغصة الفراق.
بعد أن استشهد جميع أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) وبني هاشم، ولم يبق من مدافع لحرم الرسول (ص)، وقد أيقن بلقاء الله، أقبل إلى المخيم لتوديع الحرم، فناداهم وقال: " يا سكينة، ويا فاطمة. يا زينب ويا أم كلثوم : عليكن مني السلام.
فعلت أصواتهن بالبكاء، وصحن : الوداع.. الوداع، فجاءته عزيزته سكينة وهي بنت لثلاث عشرة سنة، وقالت : يا أبتاه استسلمت للموت ؟ فقال لها : " يا نور عيني كيف لا يستسلم للموت من لا ناصر له ولا معين، واعلمي أن رحمة الله ونصرته لا تفارقكم في الدنيا والآخرة، فاصبري على قضاء الله وقدره، ولا تشتكي، فإن الدنيا فانية، والآخرة باقية.
قالت : إذن أبه أرجعنا إلى حرم جدنا رسول الله.
فقال الإمام الحسين : قد قضي القضاء، فهيهات! لو ترك القطا لغفا ونام.
فبكت سكينة فأخذها الإمام وضمّها إلى صدره، وقبَّل ما بين عينيها، ومسح دموعها، وكان يحبُّها حبّاً جمّاً، ثم جعل يسكتها ويقول :
سيطولُ بَعْدِي يَا سكينةُ فَاعْلَمِي مِنْكِ الْبُكَاءُ إذَا الحِمَامُ دَهَاني
لاَ تُحْرِقِي قَلْبِي بِدَمْعِكِ حَسْرَةً مَادَامَ مِنّي الرُّوحُ في جُثَْمانِي
فَإِذَا قُتِلْتُ فَأَنْتِ أَوْلَى بالّذي تَأْتِيْنَهُ يَا خِيْرَةَ النسوانِ 1
ثمّ إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) دعى عياله وصبّرهم وقال: إن الله يعذب أعاديكم بأنواع العذاب، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم".2
فخرج الإمام من المخيّم، وبرز في الميدان فقاتل حتى أصيب ووقع في حفرة المنحر، وكان جميع هذه الأحداث الأليمة بمنظر من سكينة، فخرجت إلى ساحة القتال تريد أباها وهو في لحظاته الأخيرة، وجراحه تشخب دماً، فمشت إلى مصرعه وهي في حال يرزى إليها من الحزن والبكاء، فألقت بنفسها على أبيها كهف اليتام والمساكين، واعتنقته، وأغمي عليها، ثم أنها تقول فسمعته وهو في تلك الحال يقول:
شِيعَتِي مَا إِنْ شَرِبْتُمْ *** رَيَّ عَذْبٍ فَاذْكُرُونِي
أَوْ سَمِعْتُمْ بِغَرِيبٍ *** أَوْ شَهِيدٍ فَانْدُبُونِي.3
فمشت في السبي مع السبايا من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام ولها مواقف مشرفة مع عمتها زينب الكبرى في إظهار الحق وفضح آل اميّة وهتكهم لحرمات الله:
فهناك روايات تنقل عنها أثناء السبي، منها ما رواه محمد بن جعفر عن ابيه عليه السلام قال:لمّا قدم على يزيد بذراريّ الحسين ع ادخل بهنّ نهارا مكشّفات وجوههنّ فقال اهل الشام الجفاة: ما راينا سبيا احسن من هؤلاء فمن انتم فقالت سكينة بنت الحسين : نحن سبايا آل محمد4.
و روى المجلسي عن سهل : يا جارية من أنت؟ فقالت: أنا سكينة بنت الحسين (عليه السلام). فقلت لها: ألك حاجة إليَّ؟ أنا سهل بن سعد، ممن رأى جدك وسمع حديثه، قالت: يا سهل قل لصاحب هذا الرأس أن يقدم الرأس أمامنا حتى يشتغل الناس إليه، ولا ينظروا إلى حرم رسول الله، قال سهل: فدنوت من صاحب الراس فقلت له: هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ مني أربعمائة دينار؟ قال: وما هي؟ قلت تقدم الرأس أمام الحرم، ففعل، فدفعت إليه ما وعدته.
هذه معرفتها، وهذا بعض أحواله في أصعب ظروف حياته، وهي تهتم بالستر والعفاف. ولا عجب من ذلك حيث أنها تربت في حجر الإسلام الأصيل... فهذه السيدة العفيفة الطاهرة الشريفة المطهرة كانت سيدة نساء عصرها، ومطيعة لله في جميع أحوالها.
ولما رجعت السيدة الطاهرة سكينة إلى المدينة، اقامت في بيت أبيها الإمام الحسين عليه السلام مع نساء قومها لابسات السواد يبكين الحسين، وزين العابدين عليه السلام يعمل لهن الطعام 5. فمن يمكن من هذه العائلة المصاب بأنواع الرزايا أن يفكر بغير النوح والبكاء، الا أن يشوّه ويحرّف الاعداء لهم سيرتهم خصوصا في سكينة بنت الحسين التي عاشت مع زين العابدين عليه السلام؟ وان يقال انها كانت تستمع الغنى وتجمع النساء لمجالسها وتعددت الزواج، وذلك لا يخلو الا عن موردين :امّا تشابها للاسماء وهذا وارد كثيرا في التاريخ وامّا تسمّم الاعداء، فهذا غير معقول.
هناك امرأة كانت تعرف بالغنى وتجمع النساء للهو وقال الشعراء الكثير فيها الا وهي سكينة بنت خالد بن مصعب الزبيري وبما أن الشعراء خاطبوها بسكينة فاشتبه حالها بسيدتنا العفيفة واغتنم الأعداء الفرصة وقالوا أنها سكينة بنت الحسين عليهما السلام.
و ان الاخبار تعدد الزواج كلها ضعيفة فضلا عن قرائن تمنع من الوقوع، كما ادعى أهل الفن، وللمزيد من المعلومات حول هذه السيدة الجليلة العظيمة يمكن الرجوع إلى كتاب "سكينة بنت الحسين عليه السلام".
كما يقول صادق العترة صلوات الله عليهم: «ما امتشطت فينا ولا اختضبت هاشمية حتى بعث إلينا المختار برؤوس الذين قتلوا الإمام الحسين عليه السلام»6.
أما اسمها فقد قيل آمنة، وقيل أمينة، وقيل أميمة، وسكينة لقب لقبتها به امها الرباب بنت امرئ القيس بن عدي. وبعد معاناة من حياة مريرة مليئة بمختلف الأحداث وفي ذروتها فاجعة الطف الأليمة توفيت هذه السيدة في الخامس من شهر ربيع الأول، عام 117هـ بالمدينة المنورة 7.
_____________________________________
1 مناقب آل ابي طالب لشهر آشوب ج4 ص119 تحقيق يوسف البقاعي.
2 مقتل الحسين للمقرّم ص 348عن جلاء العيون للمجلسي في الفارسي.
3 مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل ج17ص26 تحقيق موسسة آل البيت.
4 بحار الانوار ج45 ص169موسسة الوفاء بيروت.
5 المحاسن للبرقي المتوفي سنة ٢٧٤ ج ٢، ص195تحقيق سيد مهدي الرجائي.
6 اختيار معرفة الرجال موسسة آل البيت ج1 ص 3416.
7 وفيات الاعيان ج 2 ص 397.
التعلیقات