مخاطر الاعتداء على الطفولة
مجلة الاسرة
منذ 6 سنواتعرّف تقرير منظّمة الصحّة العالميّة العنف ضدّ الأطفال بأنّه كلّ انتهاك للطفل أو إساءة معاملته، ويشمل جميع أشكال المعاملة السيّئة البدنيّة أو العاطفيّة أو كليهما، والانتهاك الجنسي والإهمال أو المعاملة بالإهمال أو الاستغلال التجاري وغيره ،
المؤدّية إلى أذيّة حقيقيّة أو محتملة تلحق بالطفل أذى بقوّاه أو بتطوّره ونموّه أو كرامته من خلال سياق علاقات المسؤوليّة، الثقة أو القوّة .
وذكر التقرير أنّ ظاهرة الاعتداء على الأطفال ليست قاصرة على بلد معيّن، ففي كلّ بلدان العالم يتعرّض كثير من الأطفال ذكورا وإناثا إلى عنف وأذى شديدين وتساء معاملتهم بأشكال متنوّعة، ما بين الإهمال والقسوة النفسيّة وهتك الأعراض والضرب والجرح.
ورغم م الارتفاع الملحوظ في هذه الحالات، فإنّ الإحصائيّات الجنائيّة العربيّة تكاد تخلو من تفاصيل هذا النوع من الجرائم، بحيث يتمّ في أحيان كثيرة التكتّم عليها، لأنّه غالبا ما يكون المعتدي أحد أفراد الأسرة أو قريبا أو جارا، أو معلّما أو غيره، فيقبل أهل الطفل الضحيّة التسوية بعد مساومات ودخول شفاعات تبتغي صلحا، ادّعاء أنّ ذلك في مصلحة الضحيّة وحرصا على سمعة الأسرة وشرف الطفل ومستقبله.
أمّا في المحاكم فإنّ هذه القضايا يتمّ تداولها في شروط وظروف لا تتلاءم وطبيعتها، فالتعامل مع هذه الحالات يكاد يجعل الظاهرة أمرا عاديّا وطبيعيّا ما دام الطفل حيّا، دون إدراك حقيقيّ لآثارها وحجم الأضرار الناتجة عنها، كما أنّ شروط الجلسات وضغط القضايا الأخرى لا تسمح لهيئة المحكمة ببحث شامل واستماع كامل للضحيّة، فضلا عن غياب آليات التدخّل السريع، وينتهي مسار الملفّ في المحكمة إلى حفظ القضيّة أو التبرئة (لعدم ثبوت الأدلّة) أو إلى أحكام مخفّفة غير رادعة تمييزا لهتك العرض بعنف أو بدونه، ويعود الضحيّة لاستئناف حياته اليوميّة مثقلا بجروحه البدنيّة وندوبه النفسيّة التي لا تندمل أبدا، في غياب إجراءات حامية ناجعة للضحيّة جسديّا ونفسيّا .
أنواع الإساءات التي يتعرّض لها الأطفال
هناك أربعة أنواع رئيسة للاعتداء والإساءة، وهي:
1. الاعتداء الجسديّ سواء كان شديداً خطراً أو بسيطا، من أمثلته: الضرب باليد أو بالعصا أو ما يقوم مقامها، الركل، اللطم على الوجه، الكيّ بالنار والحرق، الخنق، التجويع، التكليف بمهامّ شاقّة.
2. الاعتداء الجنسي: إخضاعُ الطفلِ لعلاقة جنسيّة ترضي المعتدي الراشد، ومن أمثلته سفاح الأقارب، التحرّش اللفظي، الاحتكاك البدني، التعرية، الحديث الجنسي، وتعريض الطفل لصور ومشاهد جنسيّة، واللمس والعبث بالأعضاء الجنسيّة، وانتهاك العرض والاغتصاب.
3. الاعتداء النفسي: وهو التعامل السلبي مع الطفل عاطفيّا أو نفسيّاً من خلال الكلام أو الفعل، مثل رفض قبوله، العزل في الغرفة المظلمة، الترهيب، الشتم والتحقير ،السبّ والتعيير.
4. الاعتداء بالإهمال: وهو عدم توفير متطلّباته الحياتيّة التي كفلها له القانون وتعتبر من بديهيّات احتياجاته الأساسيّة في الحياة، ومن أمثلته: الإهمال العاطفي، الطبّي، التعليمي التربوي.
ميادين الإساءة
تتمّ شتّى أنواع الإساءات في محيط الأسرة والمحيط التربوي (المدرسة والنادي) ومحيط الشغل وفي الشارع العامّ. وتترتّب على هذه الإساءات مخاطر نوعيّة، يمكن عرضها كالتالي:
• الإساءة في الأسرة، وتتمثّل خطورتها في الآثار السلبيّة على وحدة العائلة واستقرارها.
• الإساءة في المحيط التربويّ، وتتحدّد خطورتها في التكيّف الدراسي والقدرات العقليّة للضحيّة.
• الإساءة في الشغل، وتتجسّد آثارها المباشرة على السلامة البدنيّة.
• الإساءة في الشارع والمحيط العامّ، وتتمثّل خطورتها في المساس بحقوق الطفل في النموّ والبقاء .
هويّة المعتدين
قد يكون المعتدي أيّ فرد يتعامل مع الطفل، فقد يكون الأب، الأمّ، الأخ، الخال، العمّ، ابن الجيران، المدرّس، صديق أو قريب العائلة، الخادمة، السائق، وغيرهم. ويستنتج من إحصاء بسيط أوّلي أصدره المرصد الوطني لحقوق الطفل بالمغرب أنّ الأطفال الذين تعرّضوا لاعتداءات لم يكونوا كلّهم ضحايا معتدين غرباء، ففئة الغرباء لم تتجاوز نسبة اعتدائهم 43 % من مجموع الحالات، بينما كان أكثر الضحايا يعرفون المعتدين، وتربطهم بهم علاقات ويثقون فيهم، ومنهم العاملون بالحقل التعليمي كمديري المدارس والمدرّسين والحرّاس وغيرهم، وبلغت نسبتهم 22 % ثمّ الجيران 21 % ثمّ الآباء 6 % فالأقارب 5% ثمّ التلاميذ 3%.
فالمعتدون ليسوا دوما أفرادا غرباء، كما أنّهم يتمتّعون بكامل قواهم العقليّة، وينتمون إلى كلّ الأوساط والشرائح الاجتماعيّة والاقتصاديّة والمهنيّة والدينيّة والعرقيّة، بل والأخطر من كلّ ذلك أنّ أكثر من نصف المعتدين هم أشخاص يحظون بثقة الضحايا، ومن واجبهم أن يوفّروا لهم الحماية والمساعدة والأمن. ولكنّهم يستغلّون ثقة الأطفال ويوقعونهم في حبائلهم ويعتدون عليهم دون أن يستعينوا بقوّتهم الجسديّة أو التهديد.
والأسوأ أنّ خيانة المعتدي لثقة الطفل الضحيّة تزيد من تأثير الصدمة على الضحيّة، فما يصاحب الاعتداء الجنسيّ من خيانة للثقة هو أشدّ وقعا من الإصابات الجسديّة التي يتعرّض لها. كما أنّ الإصابات النفسيّة والانفعاليّة تسبّب الألم الذي قد يستمرّ لمدّة أطول من الجراح الجسديّة.
أسباب الاعتداء
كشفت نتائج الدراسات والمقابلات والتحقيقات الجنائيّة والصحفيّة عن عدد من الأسباب التي تقف خلف سلوك الاعتداء على الأطفال وإساءة معاملتهم، منها:
• التفكّك العائلي بسبب الطلاق.
• الخبرات النفسيّة والآثار السيّئة الناتجة عن اعتداءات تعرّض لها المعتدي ..
• آثار الهجرة القرويّة إلى المدن وغياب شروط الحياة الملائمة.
• الإدمان على الخمر والمخدّرات.
• ضعف برامج التوعية الأسريّة لتسليح الوالدين بثقافة تربويّة صائبة، وتعديل اتّجاهاتهم التربويّة.
• غياب المتابعة العلاجيّة والإشراف الطبّي على كثير من ضحايا "النفسي أو العصبي"، بحيث تبيّن أنّ كثيرا من المعتدين هم ضحايا أمراض نفسيّة أو عصبيّة.
آثار الاعتداء على الأطفال
يذكر التقرير الصادر عن المرصد الوطني لحقوق الطفل بخجل وحذر (أنّ الطفل الضحيّة يكون شخصيّة ممزّقة المشاعر ومضطربة التصريحات أمام هيئات المحاكم) لأنّ هذا العنف يحطّم مكوّنات أساسيّة من شخصيّاتهم، ويخرّب ذاتهم تخريبا يصعب رأبه وترميمه، فيختزنون في أنفسهم الكثير من مشاعر الغضب والأسى والإحباط التي لا يجدون الفرصة للتعبير عنها وتفريغها.
خبرات مؤلمة
إنّ الخبرات الحياتيّة الأولى التي ينمّيها الطفل بداية من عمليّة التواصل والتفاعل مع الراشدين المحيطين به تساهم في تكوين الصورة الأوّليّة لديه عن نفسه ومحيطه، فإنّ الطفل الذي يتعرّض للخبرات المؤلمة والمزعجة يتأثّر نموّه تأثّرا سلبيّا ويتعثّر ويضطرب ويتراجع، وآثار الألم والقلق تعكّر صفو الطفل وتسبّب له خللا في التوازن الدقيق ما بين الألم والمتعة.
إنّ الطفل يعتقد دوما أنّه مركز العالم، وأنّه مقبول ومحبوب لذاته، وخضوعه لعدوان بدنيّ أو صدمة عنيفة تسبّب نموّ مشاعر الخوف لديه من أن يكون غير مرغوب فيه، فالضحيّة يشعر أنّه مهدّد، فهناك ظلم وقع عليه وعدوان لا يفهمه ولا يعرف طبيعته، وفي كلّ الأحوال يتفاعل الأطفال مع التجارب المؤلمة التي تواجههم بمشاعر أليمة متنوّعة مثل الغضب والضجر والشعور بالذنب والإحباط.
ردود فعل خطيرة
الانهيار هو واحد من ردود الفعل التي يسبّبها تعرّض الصبيّ للصدمة، إلاّ أنّه يصعب الكشف عنه وتحديد درجته بسهولة لأنّ مظاهره تتداخل مع مظاهر الحزن وتختفي خلفها، فالصدمة تخلّف في الضحيّة مظاهر القلق التي تتّخذ أشكالا متعدّدة وأعراضا متنوّعة، كالعصابات الحركيّة التي تعبّر عنها الحركات غير المألوفة واضطرابات النطق والتوحّد والانطواء وسلس البول وغير ذلك من المظاهر المرضيّة.
وأحيانا ينفلت هذا القلق من الدائرة المغلقة، ولا يبقى محصورا في ذات الضحيّة، بل يتحيّن الفرص ليتجلّى في سلوكه الخارجيّ وعلاقاته مع غيره، وفي سائر أشكال تفاعله الاجتماعيّ. فإذا كان القلق الباطن يستدعي الكآبة والانطواء وسائر الأمراض "السيكوسباتيّة"، فإنّ القلق الظاهر قد يستدعي استجابات سلوكيّة تتميّز بعنفها و عدوانيّتها، وقد يتوجّه هذا العنف إلى الذات، فيحاول الطفل إلحاق الأذى بذاته، كما يتوجّه إلى المحيط الخارجيّ مصدر هذا التوتّر، فيتّسم سلوكه بالعنف وقد يميل إلى المعارضة، كما قد يصرخ احتجاجا ويتظاهر.
في سؤال للصبية حول واقعتي هتك العرض والضرب المؤذي، أيّهما أشدّ وقعا أجابوا أنّ واقعة هتك العرض أشدّ وقعا من الضرب البدني، لأنّه يتضمّن عدوانا مزدوجا، فهو عنف بدنيّ جسديّ وقهر نفسيّ، لأنّه يتأسّس على تحقير الصبيّ وتبخيسه، والنظر إليه على أنّه لا قيمة له أو مصدر متعة عابرة، وهذا ما لا يفهمه الصبيّ، فينظر إلى ذاته على أنّها عبء ثقيل عليه، فالصبيّ لا يمتلك المعرفة الكافية للتمييز بين ما هو عاديّ وما سواه، فهولا يستطيع أن يعرف لماذا وقع له ما وقع، لماذا لم يجد من يحميه وينقذه، لماذا تغيّرت نظرة الناس إليه بعد الواقعة، أو هكذا يتصوّرها.
إنّ الضحيّة يكتسب شخصيّة مكتئبة يائسة لا تقيم اعتبارا لذاتها، فهو يذمّ نفسه لتعرّضه لحادث لا سلطان له عليه، ويفسّر ذلك على أساس أشياء ثابتة، كلّية شاملة داخليّة في الغالب. وهذا هو سبب اكتئابه الدائم وعدم قدرته على الاندماج الاجتماعي السليم من جديد، فهو دائم الإحساس بتعرّضه للخطر بسبب بنيته الجسديّة التي لا يستطيع تبديلها أو الخلاص منها، لذلك فهو يتخلّى عن كلّ اهتمام بالمحيط وبالنشاطات الاجتماعيّة التي كانت تروقه وتستهويه قبل الحادثة كالرياضة وضروب التسلية المتنوّعة التي ألفها.
أهمّية مواكبة العلاج للعقاب
إنّ سلامة الأطفال تحتّم توفير شروط الأمن المادّي والنفسي لهم لضمان نموّهم واتّزانهم، تلافيا لتنشئة مواطنين مقموعين محبطين يميلون إلى الفرار أو يتحيّنون الفرص للمهاجمة والعدوان. لذا وفي إطار التوصيّات التي نختتم بها المقال، نقترح ما يلي:
1. يتعيّن على الجهاز القضائي التعامل بموضوعيّة مع هذه القضايا والحرص على حماية أعراض وسلامة الأطفال، وإعادة الثقة للأسر في الجهاز القضائي، فيجب أن يكون العقاب على قدر الجريمة، وتشديد العقوبة على الجناة المعتدين على القاصرين يكون درسا بليغا للجميع، ورفعا لمعنويات الضحايا وأسرهم.
2. إحداث شبكات التدخّل والعلاج والرعاية والمتابعة على مستوى المستشفيات لاستقبال وعلاج الأطفال الضحايا، وتوفير الخدمة العلاجيّة الشاملة، بدل العلاجات الجزئيّة.
3. باعتبار القطاع التربويّ الفضاء المناسب لتتبّع الطفولة، ينبغي دعمه بأطر الإرشاد النفسي والاجتماعي، وبالوسائل التي تساعده على أداء وظيفته في سبيل مساعدة الضحايا على العلاج وإعادة دمجهم في إطار الحياة العاديّة، مع العناية بالمستوى الوقائي بتربية الطفل على الثقة في النفس وتبصيره بمخاطر الانزلاق والخضوع لإغراءات وتهديدات المنحرفين.
4. التفكير الجدّي في الوظيفة العلاجيّة والوقائيّة للمؤسّسات الطبّية التي يجب عليها أن تتكفّل بتشخيص الحالات المرضيّة لمرتكبي هذه الجرائم وتقديم العلاج اللازم النفسيّ والبدنيّ مساعدة لهم على تعديل سلوكهم والإقلاع عن عاداتهم.
5. وضع برنامج توعية على قاعدة ثقافة حقوق الطفل، متدرّج ومستمرّ يستهدف الأسر والمربّين ورجال الأمن والقضاء والصحّة وغيرهم، لأجل التعريف بمخاطر الظاهرة وسبل معالجتها وطرق الوقاية منها، وتمكين الأسرة من الثقافة القانونيّة التي تساعدها على حماية حقوقها.
6. العناية بتوظيف الخطاب الديني في التوجيه الوقائي للصبية وفي العمل العلاجي للجناة، من خلال دروس الوعظ في المساجد وخطب الجمعة، إلى جانب الخطاب القانوني، حتّى نضمن تشكيل وتثبيت الاتّجاهات السلبيّة نحو التحرّش والاعتداء وما في صنفهما، ونرسّخ سلوك العطف والرحمة واللين والرفق والعفّة ونبذ الفحش.
7. تحيين وتقوية التدابير الإداريّة والقضائيّة في المصالح الأمنيّة (الشرطة والدرك) والصحّية والقضائيّة الكفيلة بحماية الأطفال الضحايا في ظروف تحترم حقوق الطفل وكرامة الأسرة، وتوفير الأمن بشكل دائم في كلّ الفضاءات التي يتواجد فيها الأطفال.
إنّ مساعدة الأطفال الضحايا للتغلّب على الصعوبات والآثار الناتجة عن تعرّضهم للعدوان، يجب أن تكون عملا دائما لا ينقطع طيلة حياتهم، بالتتبّع والعلاج والتدخّل كلّ حين.. وإنّ هذه العمليّة صعبة شاقّة دون شكّ، لذا وجب أن تكون جماعيّة، لأنّ العدوان على الطفولة عدوان على المجتمع كلّه.
التعلیقات