قصة هاجر وإسماعيل
شيخ مهدي المجاهد
منذ يوممن قلب مصر، بدأت قصة امرأة ستصبح رمزًا خالداً في تاريخ الإيمان، امرأة شاء الله أن تكون شريكة في بناء مجتمع التوحيد، وأن تسطّر أعظم صور التضحية والثبات، تلك هي هاجر عليها السلام. دخلت بيت إبراهيم الخليل بدعوةٍ من الله، وبدورٍ مرسومٍ بعناية إلهية، حيث كانت سارة الزوجة الأولى للنبي إبراهيم عليه السلام، هي من بادرت بأن تكون هاجر في هذا البيت الطاهر، ليكون لها دور في تحقيق وعد السماء.
وقد ورد في كتاب قصص الأنبياء لقطب الراوندي، نذكره ملخّصًا، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « إنّ إبراهيم عليه السلام وُلد بكوثى، وكانت أمّه وأمّ لوط أُختين، وتزوّج سارة بنت لاحج، وهي بنت خالته، وكانت صاحبة ماشية كثيرة، فملّكته جميع ما تملك، فأصلحها وكثر الزرع والماشية، حتى لم يكن بأرض كوثى أحسن حالاً منه.
ولما كسر إبراهيم أصنام نمرود، أُوثق وأُضرِم له نار عظيمة وقُذف فيها، ثم تُركت حتى خمدت، فلما أشرفوا عليه وجدوه سالماً مطلقاً من وثاقه، فأخبروا نمرود، فأمر بإخراجه من بلاده مع لوط، فخرجوا إلى الشام.
وقال إبراهيم: ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ (1) ، يعني بيت المقدس، وحمل سارة في تابوت، حتى خرج من سلطان نمرود، ودخل في سلطان القبط، فاعترضه عاشرٌ له، وأصر على فتح التابوت لأخذ العشر، فلما فتحه ورأى سارة قال: ما هي؟ قال: حرمتي وابنة خالتي، قال: ولم حبستها؟ قال: الغيرة.
فأُخبر الملك، فاستدعى إبراهيم، وأصرّ أن يفتح التابوت، فلما رآها مدّ يده نحوها، فقال إبراهيم: اللهم احبس يده، فتيبّست، فسأله أن يدعو ربه، فدعا فردّ الله يده، فعاد فتيبّست مجددًا، فتاب، ودعا له إبراهيم فردّت، فعظّمه الملك وقال: انطلق حيث شئت، ولكن لي حاجة، وهي أن أهب لسارة جارية قبطية جميلة تخدمها، فأذن له، فوهبها له، وكانت هاجر » (2).
انتظار طويل... وإسماعيل ثمرة دعاء شيخ كبير
لقد طالت المدة على إبراهيم وسارة عليهما السلام وهما يترقبان من الله تعالى هبة الولد، فقد مرّت الأعوام ثقيلة، والدعاء منهما متواصل لا ينقطع، وكلّما لاح في الأفق بصيص أمل، عاد القلبان ليعاهدا الله على الصبر والتسليم. ومع مضي الزمن دون أن يُرزقا بالولد، باتت سارة تشعر بثقل الانتظار ووطأة العقم، لكنّها بقيت وفيّة في صحبتها لإبراهيم عليه السلام، مخلصة في مودتها، قائمة معه على طاعة الله والتوكل عليه.
وحين رأى إبراهيم عليه السلام أن الأمل قد طال، وأن السنّ قد تقدّم، قال لسارة بكل أدبٍ وتودّد: لو شئتِ لأذنتِ لي أن أُقارب هاجر، فلعلّ الله أن يرزقني منها ولداً يكون لي خلفًا، وذُريةً أُقرّ بها عيني. ولم تكن سارة إلا زوجة مؤمنة، تعلم أن وعد الله لا يخلف، فقالت له عن طيب نفس: "لك ذلك"، فوهبته هاجر، وكانت مملوكة لها.
فابتاع إبراهيم عليه السلام هاجر من سارة ليحلّ له وطؤها، ثم دخل بها، فحملت ووضعت غلامًا مباركًا، فكان ذلك الغلام إسماعيل عليه السلام، أوّل من بشّر الله به خليله، وكان مولده بداية لمرحلة جديدة من النبوّة والاختبار والتكليف.
لقد تجلّت رحمة الله في هذا الحدث العظيم، حيث أنزل الله البشرى على إبراهيم عليه السلام بوعدٍ إلهي كريم: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾ (3)، فكانت ولادة إسماعيل عليه السلام ثمرةً لصبر طويل، ويقين راسخ، ودعاء لم يغادر القلب، فكان الغلام الحليم هدية من السماء لقلوب لم تيأس من فضل ربّها، وبداية لرحلة الأنبياء في وادٍ غير ذي زرع، حيث ستُكتب أعظم الملاحم الإيمانية في سجل الخليل عليه السلام وذريّته من بعده.
غيرةٌ صامتة... نظرة سارة إلى أمومة هاجر
لم يكن بيت النبي إبراهيم عليه السلام خالٍ من المشاعر الإنسانية. فكما تحتمل القلوب البشرية، كانت الغيرة تجد لها مكانًا بين سارة وهاجر، لكنّ القرآن والتاريخ صوّرا ذلك بمنتهى الرقيّ والإنصاف. سارة، رغم غيرتها الطبيعية، لم تكن امرأةً شريرة، بل كانت مؤمنةً اختبرت صبرها، وهاجر، رغم تواضع مكانتها، أصبحت الأم التي قدّر الله لها أن تحمل نبوّة في رحمها.
أمرٌ من السماء... هل هو ترحال أم اختبار عظيم؟
كان الأمر الإلهي واضحًا وصادمًا: خذ هاجر وابنها إلى وادٍ غير ذي زرع. لم يكن هذا مجرد انتقال جغرافي، بل امتحانٌ إيماني بحجم الرسالات السماوية. إبراهيم امتثل، وهاجر أطاعت، ومكة بدأت أولى خطوات تكوّنها على يد امرأةٍ مؤمنة، وحدها، في صحراء قاحلة.
الوداع الثقيل... خطوات إبراهيم في صمت الرمال
تلك اللحظات كانت الأصعب، حين ترك إبراهيم عليه السلام زوجته ورضيعها في أرض لا أنيس فيها ولا ماء. لم ينظر خلفه، ودموعه محبوسة، لكنه قال : ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ... ﴾ ، وقد سلّم قلبه لله، مؤمنًا أن من أمره لن يضيّع أهله.
قلبٌ سلّم... وعينٌ لم تبكِ
ما أعظم التسليم حين يكون لله. إبراهيم لم يعترض، وهاجر لم تنهَر. قلبان مطمئنان بإرادة الله، صمدا في وجه أصعب امتحان عائلي قد يمرّ على بشر، فكانت تلك اللحظة بداية تأسيس لحضارة تُبنى على الطاعة والتسليم.
هاجر في الوادي... بداية اختبارٍ نسائي إلهي
تركت وحدها، لا بشر، لا ظل، لا ماء. وهاجر وقفت، صبرت، وواجهت قدرها بإيمانٍ وشجاعة. امرأة في قاع الصحراء، لكنها في قمّة التوكل، تحمل وليدًا، وتحمل أمانة السماء في قلبها. هنا، بدأت بطولتها الحقيقية.
السعي بين الصفا والمروة... قصة امرأة لم تفقد الأمل
قامت تبحث عن الماء، تركض بين الصفا والمروة سبع مرات، في كل مرة ترجو وتدعو، وتنتظر فرجًا من الله. لم يكن ركضها عادياً، بل كان نقشًا على صفحات الخلود، حتى صار السعي شعيرة من شعائر الحج، يُخلّد فعلها ملايين المؤمنين كل عام.
القصة في روايات أهل البيت عليهم السلام على لسان الإمام الصادق عليه السلام : « فلما نزلوا في ذلك المكان، كان فيه شجر، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها، فاستظلت تحته. فلما سرحهم إبراهيم، ووضعهم، وأراد الانصراف عنهم إلى سارة، قالت له هاجر: لم تدعنا في هذا الموضع الذي ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع؟ فقال إبراهيم: ربي الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان. ثم انصرف عنهم.
فلما بلغ كدى وهو جبل بذي طوى، التفت إليهم إبراهيم فقال : ﴿ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ (4)، ثم مضى وبقيت هاجر. فلما ارتفع النهار عطش إسماعيل، فقامت هاجر في الوادي، حتى صارت في موضع المسعى، فنادت: هل في الوادي من أنيس؟ فغاب عنها إسماعيل.
فصعدت على الصفا، ولمع لها السراب في الوادي، وظنت أنه ماء، فنزلت في بطن الوادي وسعت. فلما بلغت المروة غاب عنها إسماعيل، ثم لمع لها السراب في ناحية الصفا، وهبطت إلى الوادي تطلب الماء. فلما غاب عنها إسماعيل عادت حتى بلغت الصفا، فنظرت إلى إسماعيل حتى فعلت ذلك سبع مرات. فلما كان في الشوط السابع، وهي على المروة نظرت إلى إسماعيل، وقد ظهر الماء من تحت رجليه، فعادت حتى جمعت حوله رملا، وإنه كان سائلا فزمته بما جعلت حوله، فلذلك سميت زمزم » (5).
زمزم... نبعٌ من الجنة في قلب الصحراء
وبينما كانت تسعى، تفجّر الماء من تحت قدمي إسماعيل، فكان زمزم، النبع الذي روى عطشها، وروى قلبها بالإيمان، بل وبدأت مكة تنبض بالحياة من حولها. معجزةٌ سماوية كانت الجواب على صبر امرأة آمنت.
حينما صارت الطاعة أصلًا لحضارة خالدة
لم تكن تلك الأحداث مجرد قصة من قصص الأنبياء، بل كانت بداية لحضارة إيمانية، نشأت على أساس الطاعة والصبر والثبات، كان للمرأة فيها الدور الأساسي، والبطولة الأبدية. هاجر لم تكن فقط أم إسماعيل، بل كانت أمًّا لمرحلةٍ من النبوّة، وشريكة في تأسيس أقدس بقاع الأرض.
خاتمة:
في هذه القصة السماوية، تظهر المرأة المسلمة المؤمنة في أبهى صورها؛ صبرًا، طاعةً، قيادةً روحية وعاطفية، وتجسيدًا للثبات في وجه المجهول. لقد كانت هاجر عليها السلام أنموذجًا خالدًا للمرأة في الإسلام، تُنير طريق المؤمنات، وتقدّم للبشرية معنى أن تكون المرأة عمادًا لعقيدة، وأساسًا لمجتمع، وبداية لحضارة.
1ـ سورة الصافات : الآية 99.
2ـ قصص الانبياء / قطب الدين الراوندي / المجلّد : 1 / الصفحة : 108.
3ـ سورة الصافات : الآية 100 ـ 101.
4ـ سورة ابراهيم : الآية 37.
5ـ مجمع البيان في تفسير القرآن / الشيخ الطبرسي / المجلّد : 1 / الصفحة : 389 / ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.
التعلیقات