تصدق الإمام علي عليه السلام بالخاتم في الصلاة : التوازن بين العبادة والمسؤولية الاجتماعية
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 6 ساعاتمقدمة
إنّ الحديث عن الإمام علي عليه السلام لا يقتصر على بطولاته في ميادين الجهاد أو علمه الذي أذهل الحكماء، بل يمتد ليشمل تفاصيل حياته اليومية، وخاصة دوره في تكوين عائلة إسلامية ناجحة. فالإمام عليّ عليه السلام لم يكن فقط إمامًا للمسلمين، بل كان أبًا وزوجًا ومربيًا، أسّس أُسرةً تُعدّ النموذج الأسمى في الإيمان، الإيثار، والعطاء. ومن خلال تتبع سيرة الإمام عليّ عليه السلام في حياته العائلية، نستطيع أن نستخرج دروسًا عملية لكل أسرة مسلمة تطمح إلى النجاح والرضا الإلهي.
1. الإمام عليّ عليه السلام قدوة في الإيثار والتضحية داخل الأسرة
تجلّى إيثار الإمام علي عليه السلام في مواقف عظيمة، من أبرزها واقعة تصدق خاتمه في الصلاة، حين تصدّق بخاتمه وهو راكع في محراب عبادته، فنزلت فيه الآية المباركة:
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (1).
وقد ورد في تفسير القمي: « نزلت هذه الآية في شأن الإمام علي عليه السلام، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله جَالِسٌ- وَ عِنْدَهُ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله إِلَى الْمَسْجِدِ فَاسْتَقْبَلَهُ سَائِلٌ، فَقَالَ هَلْ أَعْطَاكَ أَحَدٌ شَيْئاً- قَالَ نَعَمْ، ذَاكَ الْمُصَلِّي- فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام » (2).
وقال وقد اتّفق المفسّرون من الشيعة وأكثر مفسّري أهل السنّة أنّ هذه الآية نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام، حين تصدّق بخاتمه وهو راكع.
هذا الموقف ليس مجرد قصة تاريخية بل هو تجلٍ لروح العطاء حتى في أقدس لحظات العبادة. فالإمام لم يفصل بين العبادة وبين الخدمة الاجتماعية، وهذا ما يجب أن نتعلمه ونعلمه في أُسرنا. أن يكون الأب أو الأم نموذجًا في البذل والعطاء، لا من خلال الأقوال فقط، بل بالسلوك العملي، يجعل الأطفال يتربون على السخاء والعطف وحب الخير للآخرين.
فمتى كان الوالدان يقدمان للآخرين، يساعدون الجيران، يراعون الفقراء، فإن الأطفال يرثون هذه الروح الطاهرة، وتصبح قيمة « الإيثار » جزءًا من بنائهم التربوي.
2. تربية الأبناء على نهج أهل البيت عليهم السلام
تُظهر سيرة الإمام علي عليه السلام أنه ربّى أبناءه، لا بالكلام والخطب، بل بسيرته العملية. فحين يرى الأبناء أباهم راكعاً لله، وفي ذات اللحظة يمدّ يده لمساعدة محتاج، فإن هذا المشهد لا يُنسى، ويغرس في قلوب الأبناء أنّ العبادة لا تكتمل بدون مسؤولية اجتماعية.
وقد رأينا ثمرة هذا النهج في سلوك الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام، اللذين كانا نموذجين في العبادة والكرم ومساعدة الفقراء. لم يكونا ابنَي إمام فحسب، بل نتاج تربية عملية عايشاها في كنف والدهما، الذي علّمهما أنّ العبودية الحقة لله لا تنفصل عن الرحمة بالخلق.
ومن هنا، فإن التربية الدينية لا يمكن أن تكون ناجحة إلا إذا كانت قائمة على القدوة الصالحة. ولا نجد قدوة أسمى من سيرة أهل البيت عليهم السلام، حيث تتجسد القيم العليا في حياتهم اليومية.
كان الإمام علي عليه السلام قدوة عملية لأبنائه، وربّاهم على دمج العبادة بالخدمة الاجتماعية. يقول عليه السلام في وصيته لابنه الحسن : « وَ إِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ کَالْأَرْضِ الْخَالِیَهِ مَا أُلْقِیَ فِیهَا مِنْ شَیْءٍ قَبِلَتْهُ فَبَادَرْتُكَ بِالْأَدَبِ قَبْلَ أَنْ یَقْسُوَ قَلْبُكَ وَ یَشْتَغِلَ لُبُّكَ لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْیِكَ » (2).
فالتربية الناجحة في فكر الإمام علي عليه السلام تبدأ بالقدوة، وتُعزّز بالسلوك المستمر.
3. قيمة الإحسان والإنفاق في البناء القيمي للعائلة
تُعتبر خصال كالسخاء والإنفاق في سبيل الله، من أهم ركائز التربية في الأسرة المؤمنة. فهذه القيم ليست مفاهيم نظرية، بل تُترجم إلى أفعال تُعاش في كل تفصيل من تفاصيل الحياة الأسرية. من طريقة التعامل مع الجيران، إلى سلوك الأسرة مع الفقراء، إلى البساطة في الملبس والمأكل.
وقد كان الإمام علي عليه السلام وزوجته الصديقة فاطمة الزهراء عليهما السلام مثالًا واضحًا في ذلك. ففي قصة الصيام لثلاثة أيام، حين قدّما طعام إفطارهم للمسكين واليتيم والأسير، ونزل فيهم قوله تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ (4).
وقد ورد في كتب التفاسير حول قوله تعالى ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ...﴾:"نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، صاموا ثلاثة أيام، وفي كل ليلة أعطوا إفطارهم لمسكين ويتيم وأسير، فأنزل الله فيهم هذه الآيات.
هذه القيم، حين تعاش داخل الأسرة، تنتج أبناءً يحملون روح البذل، لا الترف، ويكونون أداة للرحمة في المجتمع.
هذا النموذج العملي يجعل من قيم الإحسان والعطاء جزءًا من ثقافة العائلة، لا مجرد شعارات. فالأسرة التي تغرس في أولادها أنّ الإنفاق يُقرّب من الله، وأنّ البذل للناس بابٌ من أبواب الطاعة، تخلق جيلًا مرتبطًا بالسماء ومحبًّا للناس.
4. التوازن بين العبادة والمسؤولية الاجتماعية
إنّ من الأخطاء الشائعة في بعض الأُسر هو التركيز المفرط إمّا على الجانب التعبّدي البحت أو على الجانب الاجتماعي دون تحقيق التوازن. إلا أن سيرة الإمام علي عليه السلام تعلّمنا أنّ هذين البعدين لا يتعارضان بل يتكاملان.
فهو عليه السلام، إلى جانب عبادته الطويلة وتهجده وبكائه في محراب الليل، كان يمشي في النهار في شوارع الكوفة يتفقد الفقراء والمساكين، ويقضي بين الناس بالعدل، ويقوم على شؤون الأمة.
وهذا ما يجب أن يكون عليه حال الأسرة المسلمة، توازن بين الصلاة والخدمة، بين "العبادة والرحمة"، بين "الذكر والعطاء". فلا نُربّي أولادنا على العزلة باسم الدين، ولا نُذيبهم في الدنيا باسم الواقعية، بل نعلّمهم أن الدين هو حياة كاملة، تعبّد وعمل، خُشوع وفاعلية.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "تنافسوا في المعروف لإخوانكم وكونوا من أهله، فإن للجنة باباً يقال له المعروف، لا يدخله إلا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا فإن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكّل اللَّه به ملكين، واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربّه ويدعوان بقضاء حاجته...(5) .
هذا النهج يزرع في الأسرة فهماً متوازنًا للدين، لا يكتفي بالعزلة الروحية، بل يدعو إلى العمل لأجل الآخرين.
5. تربية على أساس الولاء: الإمام عليّ قدوة فكرية وسلوكية للأسرة
إنّ واحدة من أهم المرتكزات في بناء الأسرة المؤمنة هي الولاء لأهل البيت عليهم السلام، وليس ذلك بالشعارات، بل بالاقتداء الفعلي بهم. أن يكون الإمام عليّ عليه السلام مرجعًا أخلاقيًا وفكريًا في كل قرارات العائلة، بدءًا من التربية، ومرورًا بالعلاقات، وانتهاءً بطريقة التعامل مع الأزمات.
فحين تُربّى الأسرة على أنّ الإمام عليه السلام هو وليّها في الفكر والسلوك، فإنّها تُصبح قادرة على مواجهة التحديات الاجتماعية والمعنوية بقوة الإيمان والعقل. الولاء للإمام علي عليه السلام يعني اتّباع نهجه في العدل، في الحكمة، في الرحمة، وفي تحكيم العقل.
وحين تقع الخلافات بين أفراد العائلة، يكون الرجوع إلى تعاليم الإمام علي عليه السلام، لا إلى أهواء النفوس. وحين تحتار الأسرة في قرار مصيري، يكون نهج أمير المؤمنين عليه السلام مرشدها. وهذه هي التربية الولائية التي تنشئ مجتمعًا متماسكًا مؤمنًا، لا تفرّقه الفتن، ولا تُضعفه المصاعب.
إن تربية الأبناء على الولاء لا تعني فقط حبّ الإمام علي عليه السلام، بل الالتزام بسيرته ومبادئه، واتخاذه مرجعًا عند كل مفترق طريق.
الخاتمة: عليٌّ عليه السلام... أُسوةٌ لبيوتٍ تُريد الجنّة
لقد جسّد الإمام عليّ عليه السلام أرقى صور الإنسانية في داخل البيت، كما جسّدها في ساحة الحكم والجهاد. كان أبًا رؤوفًا، زوجًا مخلصًا، قائدًا عادلًا، ومربيًا ربّانيًا. حياته الأسرية لم تكن جزءًا ثانويًا من سيرته، بل كانت ساحةً تطبيقيةً لكل ما دعا إليه من قيم.
واليوم، وبينما تواجه العائلة المسلمة ضغوطًا أخلاقية وثقافية واجتماعية هائلة، فإن العودة إلى سيرة الإمام عليّ عليه السلام تُعدّ خيارًا استراتيجيًا لبناء جيل صالح. فإذا أردنا أن نُنشئ أُسرًا ناجحة، مترابطة، وقوية الإيمان، فعلينا أن نجعل من الإمام عليّ عليه السلام قدوتنا في كل جانب من جوانب الحياة العائلية.
وختامًا، إن كان لكل بيت عماد، فإن الإمام علي عليه السلام هو عماد بيوت النور والإيمان. فلنستلهم من حياته، ولنعلّم أبناءنا أن النجاح العائلي لا يُقاس بكثرة المال أو الرفاه، بل بقوة القيم، وحدة القلب، وصفاء النيّة. وهذا ما حققه الإمام عليه السلام، وهذا ما يجب أن نحققه نحن في بيوتنا، إن أردنا جنّةً تبدأ من هنا.
1. سورة المائدة : الآية 55.
2. تفسير القمي / علي بن ابراهيم القمي / المجلّد : 1 / الصفحة : 170
3. نهج البلاغه / صبحي صالح / المجلّد : 1 / الصفحة : 393.
4. سورة الإنسان : الآية 8.
5. جامع السعادات / ملا مهدي النراقي / المجلّد : 2 / الصفحة : 238.
التعلیقات