أنت الحرّ كما سمّتك اُمّك
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 5 سنواتإنّ الأطفال كثيرا ما يتأثرون برواية القصص، ويستطيع كل من الأبوين أن يستفاد من هذا الأمر والفرصة؛ لتربية الأولاد؛ لأن الأطفال لهم شغف لاستماع القصص، ويتأثرون إلى حد كبير بها، ويتفاعلون معها، وللقصص تأثير أكبر من النصيحة المباشرة؛ لأن القصة تمنحه الفرصة بأن يفكر ويستلهم منها، ومن هذا المنطلق سوف نروي لكم قصة أصحاب الإمام الحسين عليه السلام؛ لكي نستلهم من حياتهم الدروس، ونتعلم منهم كيف وصلوا إلى هذا المقام الرفيع.
هو الحرّ بن يزيد بن ناجية التميمي اليربوعي الرياحي.
كان الحرّ شريفاً في قومه جاهلية وإسلاماً، وكان الحرّ في الكوفة رئيساً قبل واقعة الطف دعاه ابن زياد لمعارضة الإمام الحسين عليه السلام، فخرج في ألف فارس.
وروى عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قالا: كنا نساير الإمام الحسين عليه السلام، فنزل شراف، وأمر فتيانه باستقاء الماء والإكثار منه، ثمّ ساروا صباحاً، فرسموا صدر يومهم حتّى انتصف النهار، فكبّر رجل منهم؛ فقال الإمام الحسين عليه السلام: «الله أكبر لم كبّرت»؟ قال: رأيت النخل.
قالا: فقلنا: إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلة قط.
قال: «فما تريانه رأى»؟
قلنا: رأى هوادي الخيل. (مقدمها وأعناقها)
فقال: «وأنا والله أرى ذلك».
وجاء القوم فإذا الحرّ في ألف فارسـ فوقف مقابل الإمام الحسين عليه السلام في حرّ الظهيرة، وهو وأصحابه معتمون متقلّدون أسيافهم، فقال الإمام الحسين عليه السلام لفتيانه: «اسقوا القوم ورشّفوا الخيل»، فلمّا سقوهم، ورشّفوا خيولهم، حضرت الصلاة، فأمر الإمام الحسين عليه السلام الحجّاج بن مسروق الجعفي أن يؤذّن.
وحضرت الإقامة فخرج الإمام الحسين عليه السلام في إزار ورداء ونعلين، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال: «أيّها الناس إنّها معذرة إلى الله وإليكم، إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم» إلى آخر ما قال، فسكتوا عنه، فقال للمؤذّن: «أقم» فأقام، فقال الإمام الحسين عليه السلام للحرّ: «أتريد أن تصلّي بأصحابك»؟ قال: لا بل بصلاتك، فصلّى بهم الإمام الحسين عليه السلام، ثمّ دخل مضربه واجتمع إليه أصحابه، ودخل الحرّ خيمة نصبت له، واجتمع عليه أصحابه، ثمّ عادوا إلى مصافّهم، فأخذ كلّ بعنان دابّته، وجلس في ظلّها، فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين بالتهيؤ للرحيل.
فقال الحر: إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك ألاّ نفارقك حتّى نقدمك على عبيد الله.
فقال الإمام الحسين عليه السلام: «الموت أدنى إليك من ذلك»، ثمّ قال لأصحابه: «اركبوا»، فركبوا وانتظروا حتّى ركبت النساء، فقال: «انصرفوا»، فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الإمام الحسين عليه السلام للحرّ: «ثكلتك أمّك! ما تريد»؟
قال: أما والله لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل هذه الحالة التي أنت عليها ما تركت ذكر أمّه بالثكل أن أقوله كائنا من كان، ولكن –والله- مالي إلى ذكر أمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما يقدر عليه، فقال الإمام الحسين عليه السلام: «فما تريد»؟
قال: أريد أن أنطلق بك إلى عبيد الله، فقال: «إذن لا أتّبعك».
قال الحرّ: إذن لا أدعك، فترادّا القول ثلاث مرّات، ثمّ قال الحر: إنّي لم أؤمر بقتالك، وإنّما أمرت ألاّ أفارقك حتّى أقدمك الكوفة، فإن أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة، ولا تردّك إلى المدينة تكون بيني وبينك نصفا حتّى أكتب إلى ابن زياد، فلعلّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلى بشيء من أمرك. (1)
وبعد مدة جاء رسول ابن زياد ومعه الكتاب، فلمّا قرأ الكتاب جاء به إلى الإمام الحسين عليه السلام ومعه الرسول، فقال: هذا كتاب الأمير يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه، وهذا رسوله قد أمره أن لا يفارقني حتّى أنفذ رأيه وأمره. وأخذهم بالنزول في ذلك المكان. (2)
واجتمعت الجيوش وجاء ابن سعد لكربلاء، ثم إنّ الحرّ قال لعمر بن سعد: أصلحك الله! أمقاتل أنت هذا الرجل؟
فقال: إي والله، قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس، وتطيح الأيدي.
قال: أفما لك في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضا؟
فقال: أما والله لو كان الأمر إليّ لفعلت، ولكن أميرك قد أبى، فأقبل الحرّ حتّى وقف من الناس موقفا، فأخذ يدنو من الحسين قليلا قليلا، فقال له المهاجر بن أوس الرياحي: ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذه مثل العرواء، فقال له: يا ابن يزيد، إنّ أمرك لمريب، وما رأيت منك في موقف قطّ مثل شيء أراه الآن، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة رجلا ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك!
قال: إنّي –والله- أخيّر نفسي بين الجنّة والنار، ووالله لا أختار على الجنّة شيئا ولو قطّعت وحرّقت، ثمّ ضرب فرسه، ولحق بالإمام الحسين عليه السلام، فلمّا دنا منهم قلب ترسه، فقالوا مستأمن، حتّى إذا عرفوه سلّم على الإمام الحسين عليه السلام، وقال: جعلني الله فداك يا ابن رسول الله! أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، والله الذي لا إله إلاّ هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبدا، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، فقلت في نفسي لا أبالي أن أصانع القوم في بعض أمرهم، ولا يظنون أني خرجت من طاعتهم. وأمّا هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم، ووالله إنّي لو ظننتهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك، وإنّي قد جئتك تائبا ممّا كان منّي إلى ربي، ومواسيا لك بنفسي حتّى أموت بين يديك، أفترى لي توبة؟
قال: «نعم، يتوب الله عليك، ويغفر لك، فانزل».
قال: أنا لك فارسا خير منّي راجلا، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول يصير آخر أمري.
قال: «فاصنع ما بدا لك»، فاستقدم أمام أصحابه ثمّ قال: أيّها القوم ألا تقبلون من حسين هذه الخصال التي عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه؟
قالوا: فكلّم الأمير عمر، فكلّمه بما قال له قبل.
فقال عمر: قد حرصت، ولو وجدت إلى ذلك سبيلا فعلت.
فالتفت الحرّ إلى القوم وقال: يا أهل الكوفة، لأمّكم الهبل والعبر دعوتم ابن رسول الله حتّى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كلّ جانب، لتمنعوه التوجّه إلى بلاد الله العريضة حتّى يأمن ويأمن أهل بيته، فأصبح في أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعا، ولا يدفع ضرّا، حرتموه ونساءه وصبيته وأصحابه من ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهودي والنصراني، وتمرغ فيه خنازير العراق وكلابه، فها هم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمّدا في ذريّته! لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه.
فحملت عليه رجال ترميه بالنبل، فرجع إلى معسكر الإمام، ولمّا قتل حبيب أخذ الحرّ يقاتل راجلا، وهو يقول:
آليت لا أقتل حتّى أقتلا*** ولن أصاب اليوم إلاّ مقبلا
أضربهم بالسيف ضربا مفصلا*** لا ناكلا عنهم ولا مهللا
ويضرب فيهم، ويقول:
إنّي أنا الحرّ ومأوى الضيف*** أضرب في أعراضكم بالسيف
عن خير من حلّ بأرض الخيف
ثمّ أخذ يقاتل هو وزهير قتالا شديدا، فكان إذا شدّ أحدهما، واستلحم شدّ الآخر حتّى يخلّصه، ففعلا ذلك ساعة. ثمّ شدّت جماعة على الحرّ، فقتلوه. (3)
فلمّا صرع وقف عليه الإمام الحسين عليه السلام، وكان به رمق، فقال له، وهو يمسح الدم عنه: «أنت الحرّ كما سمّتك اُمّك، وأنت الحرّ في الدنيا والآخرة». (4)
ــــــــــــــ
1ـ إبصار العين في أنصار الحسين عليه السلام: ص 205.
2ـ بحار الأنوار: ج 44، ص 380.
3ـ تاريخ الطبري: ج ٣، ص ٣٢٧.
4ـ مقتل الحسين عليه السلام للمقرّم: ص 245.
التعلیقات