زينب الكبرى سلام الله عليها ولائيات
دور المرأة في واقعة الطّف
منذ 14 سنةمن طعام الجنَّة[1]
صلّى أبي مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلاة الفجر ثم أقبل عليّ عليه السّلام فقال: هل عندكم طعام؟
فقال: لم آكل منذ ثلاثة أيّام طعاماً، وما تركت في منزلي طعاماً، قال: اِمض بنا إلى فاطمة، فدخلا وهي تلتوي من الجوع وابناها معها فقال: يا فاطمة! فداك أبوك هل عندك شيء؟
صلّى أبي مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صلاة الفجر ثم أقبل عليّ عليه السّلام فقال: هل عندكم طعام؟
فقال: لم آكل منذ ثلاثة أيّام طعاماً، وما تركت في منزلي طعاماً، قال: اِمض بنا إلى فاطمة، فدخلا وهي تلتوي من الجوع وابناها معها فقال: يا فاطمة! فداك أبوك هل عندك شيء؟
فاستحيت، فقالت: نعم، وقامت وصلّت ثم سمعت حسّاً فالتفتت فإذا صحفة ملأى ثريداً ولحماً، فاحتملتها فجاءت بها ووضعتها بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فجمع عليّاً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام وجعل عليّ يطيل النظر إلى فاطمة ويتعجّب، ويقول:
خرجت من عندها وليس عندها طعام، فمن أين هذا؟
زينب الكبرى سلام الله عليها ولائيات
ثم أقبل عليها فقال: ياابنة رسول الله، أنّى لك هذا؟!
قالت: (هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [2] فضحك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: الحمد لله الذي جعل في أهلي نظير زكريّا ومريم إذ قال لها: أنّى لك هذا؟ قالت: (هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
فبينما هم يأكلون إذ جاء سائل بالباب فقال: السّلام عليكم يا أهل البيت! أطعموني مما تأكلون فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: إخسأ، إخسأ، ففعل ذلك ثلاثاً.
وقال عليّ عليه السّلام أمرتنا أن لا نرد سائلاً، من هذا الذي أنت تخسأه؟
فقال: يا عليّ، إن هذا إبليس علم أن هذا طعام الجنّة، فتشبّه بسائل لنطعمه منه.
فأكل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام حتى شبعوا؛ ثم رفعت الصحفة فأكلوا من طعام الجنّة في الدنيا.
علم الطفّ خفّاق أبداً [3]
ولمّا مرّوا بالأسرى على قتلاهم، جزع الإمام السجاد عليه السّلام من رؤية ذلك المنظر الرهيب، فرأت زينب عليها السّلام جزع ابن أخيها الإمام زين العابدين عليه السّلام فقالت له:
ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟
فقال عليه السّلام: وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيّدي وإخوتي وعمومتي وولد عمي مصرّعين بدمائهم، مرّملين بالعراء، مسلّبين، لا يكفّنون، ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر.
فقالت عليها السّلام: لا يجزعنّك ما ترى ـ فوالله ـ إن ذلك لعهد من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى جدّك وأبيك وعمّك، ولقد أخذ الله ميثاق أنّاس من هذه الأمّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمّة، وهم معروفون في أهل السماوات، أَنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرّجة، وينصبون بهذا الطفّ علمّاً لقبر أبيك سيّد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيّام، وليجهدّن أئمة الكفر وأشياع الضَّلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد إلا ظهوراً، وأمره إلا علوّاً.
عبادات الصلاة من جلوس [4]
وروى بعض المتتبعين عن الإمام زين العابدين عليه السّلام أنه قال: إنّ عمَّتي زينب كانت تؤدي صلواتها من قيام، الفرائض والنوافل عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام، وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس. فسألتها عن سبب ذلك؟ فقالت: (أصلّي من جلوس لشدّة الجوع والضّعف منذ ثلاث ليال) لأنّها كانت تقسِّم ما يصيبها من الطعام على الأطفال، لأنّ القوم كانوا يدفعون لكل واحد منّا رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم والليلة.
مناقضات
لمّا منعوا فاطمة عليها السّلام فدكاً [5]
لمّا اجتمع رأي أبي بكر على منع فاطمة (عليها السّلام) فدك والعوالي، وأيّست من إجابته لها، عدلت إلى قبر أبيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فألقت نفسها عليه، وشكت إليه ما فعله القوم بها وبكت حتّى بلّت تربته صلّى الله عليه وآله وسلّم بدموعها وندبته، ثُمّ قالت في آخر ندبتها:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة إنا فقدناك فقد الأرض وابلها قد كان جبريل بالآيات يؤنسنا فكنت بدراً ونوراً يستضاء به تجّهمتنا رجال واستخفّ بنا سيعلم المتوليّ ظلم حامّتنا فقد لقينا الذي لم يلقه أحد فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب[6] فغبت عنا وكل الخير محتجب عليك ينزل من ذي العزّة الكتب بعد النبيّ وكلّ الخير مغتصب يوم القيامة أنّى سوف ينقلب من البريّة لا عجم ولا عرب لنا العيون بتهمال له سكب
مع ابن سعد[7]
ونادت زينب عليها السّلام: واأخاه، وا سيّداه واأهل بيتاه، ليت السماء أطبقت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السهل.. وقد انتهت نحو الحسين عليه السّلام وقد دنا منه عمر بن سعد في جماعة من أصحابه والحسين عليه السّلام يجود بنفسه فصاحت،: أي عمر! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ فصرف بوجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته.
حسبك من دمائنا [8]
وعندما استعرض ابن زياد آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وسأل عن كل فرد منهم؛ واستغرب في وجود الإمام زين العابدين عليه السّلام من بين آل الحسين عليه السّلام حيّاً، وقد سبقه النبأ من ابن سعد أنه اجتاحهم، فسأله: من أنت؟ فقال عليه السّلام: أنا عليّ بن الحسين. فقال أليس قد قتل الله عليّ بن الحسين؟ فقال عليه السّلام: كان لي أخ يسمى علياً قتله الناس. فقال ابن زياد: بل الله قتله. فقال عليه السّلام: (اللّهُ يَتَوَفّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا)[9] فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي؟ وفيك بقيّة للردّ عليّ؟ اذهبوا به فاضربوا عنقه. فتعلقت به عمّتهُ زينب، وقالت: يا ابن زياد، حسبك من دمائنا، واعتنقته، وقالت: لا والله، لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه.
فنظر ابن زياد إليها ثم قال: عجباً للرّحم، إنّي لأظنّها ودّت أنيّ قتلتها معه، دعوه فإنّي أراه لمّا به.
ما كان ذلك جزائي[10]
ثم أنشأت زينب عليها السّلام بعد خطبتها في سوق الكوفة قائلة:
ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم بأهل بيتي وأولادي وتكرمنيّ ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم إني لأخشى عليكم أن يحل بكم ماذا صنعتم وأنتم أخر الأمم منهم أسارى ومنهم ضرّجوا بدم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحم مثل العذاب الذي أودى على إرم
مع المتعرِّض لأهل البيت عليهم السّلام[11]
أن شامياً تعرض لفاطمة بنت أمير المؤمنين عليه السّلام فدعت عليه زينب سلام الله عليها بقولها: قطع الله لسانك، وأعمى عينيك، وأيبس يديك.
فأجاب الله دعاءها في ذلك. فقالت سلام الله عليها: الحمد لله الذي عجّل لك بالعقوبة في الدنيا قبل الآخرة.
السالب لبنات الوحي[12]
دعت زينب عليها السّلام على رجل سلبهم في كربلاء فقالت عليها السّلام: قطع الله يديك ورجليك، وأحرقك الله بنّار الدنيا قبل الآخرة.
ـ فوالله ـ ، ما مَّرت الأيّام حتّى ظهر المختار وفعل به ذلك ثمّ أحرقه بالنّار.
كفرتم بِربّ العرش[13]
لَمّا رأت زينب عليها السّلام رأس أخيها بكت وأنشأت:
أتشهرونا في البرية عنوة كفرتم برب العرش ثم نبيّه لحاكم إله العرش يا شرّ أمةٍٍ ووالدنا أوحى إليه جليل كأن لم يجئكم في الزّمان رسول لكم في لظى يوم المعاد عويل
سياسات
في جماهير الكوفة [14]
قال بشير بن خزيم الأسدي: لمّا أدخلوا السبايا الكوفة وأخذ النّاس يبكون وينوحون لأجلهم، التفتت إليهم زينب بنت عليّ عليها السّلام ولم أر خفرة[15] والله، أنطق منها، كأنها تفرغ من لسان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام وقد أومأت إلى النّاس أن اسكتوا فارتدّت الأنفاس، وسكنت الأجراس ثم قالت:
الحمد لله والصلاة على أبي محمّد وآله الطيبّين الأخيار. أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنّة، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ألا وهل فيكم إلا الصلف والنطف والصدر الشنف وملق الإماء وغمز الأعداء أو كمرعى على دمنة، أو كفضِّة على ملحودة ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
أتبكون وتنتحبون؟ إي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة، و سيّد شباب أهل الجنّة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجتكم، ومدرة سنَّتكم؟ ألا ساء ما تزرون، وبعداً لكم وسحقاً فلقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة.
ويلكم أهل الكوفة أتدرون أيَّ كبد لرسول الله فريتم، وأي كريمة له أبرزتم وأي دم له سفكتم، وأيَّ حرمة له انتهكتم، لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء وفي بعضها: خرقاء شوهاء كطلاع الأرض، أو ملء السماء أفعجبتم أن مطرت السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزى، وأنتم لا تنصرون فلا يستخفنَّكم المهل فإنَّه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثأر، وإنَّ ربكم لبالمرصاد.
قال الراوي: فوالله، لقد رأيت النَّاس يومئذٍ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبيّ يبكي حتى أخضلّت لحيته، وهو يقول: بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النّساء ونسلكم خير نسل، ولايخزي ولا يبزي.
لو ترى عليّاً عليه السّلام؟ [16]
لمّا أدخل السّبايا الكوفة وأخذت أم كلثوم تخاطب النّاس إذا بضجة قد ارتفعت، فإذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين عليه السّلام وهو رأس زهري قمري أشبه الخلق برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولحيته كسواد السبج قد انتصل منها [17] الخضاب، ووجهه دارة قمر طالع والرمح تلعب بها يميناً وشمالاً فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها فنطحت بمقدّم المحمل، حتى رأينا الدّم يخرج من تحت قناعها وأومأت إليه بخرقة وجعلت تقول:
يا هلالاً لمّا استتم كمالاً ما توهمت يا شقيق فؤادي يا أخي فاطم الصغيرة كلمها يا أخي قلبك الشفيق علينا يا أخي لوترى علياً لدى الأسر كلمّا أوجعوه بالضرب ناداك ياأخي ضُمّه إليك وقرّبه ما أذل اليتيم حين ينادي غاله خسفه فأبدا غروباً كان هذا مقدَّراً مكتوباً فقد كاد قلبها أن يذوبا ما له قد قسى وصار صليباً؟ مع اليتم لا يطيق وجوبا بذلّ بغيض دمعاً سكوبا وسكّن فؤاده المرعوبا بأبيه، ولا يراه مجيباً
إنمّا يفتضح الفاسق[18]
لمّا أدخل السبايا الكوفة جلس ابن زياد في القصر للناس، وأذن إذناً عاماً وجيء برأس الحسين عليه السّلام فوضع بين يديه وأدخل نساء الحسين عليه السّلام وصبيانه إليه، فجلست زينب بنت عليّ عليه السلام متنكرة فسأل عنها فقيل: زينب بنت عليّ عليه السّلام، فأقبل إليها فقال: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم، فقالت:
إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا.
فقال ابن زياد: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟
فقالت: ما رأت إلاَّ جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم، فانظر لمن يكون الفلج يومئذٍ، هبلتك أمك يا ابن مرجانة.
قال الراوي: فغضب ابن زياد وكأنه همَّ بها.
فقال له عمرو بن حريث: إنها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها.
فقال لها ابن زياد: لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك.
فقالت: لعمري لقد قتلك كهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن كان هذا شفاك فقد اشتفيت.
فقال ابن زياد: هذه سجّاعة! ولعمري، القد كان أبوك شاعراً سجّاعاً.
فقالت: يا ابن زياد، ما للمرأة والسجاعة وإنّ لي عن السجاعة لشغلاً وإنيّ لأعجب ممّن يشتفي بقتل أئمته، ويعلم أنَّهم منتقمون منه في آخرته.
والله، لا تمحو ذكرنا[19]
لمَّا جيء برأس الحسين عليه السّلام إلى يزيد دعا بقضيب خيزران وجعل ينكث به ثنايا أبي عبد الله الحسين عليه السّلام ويتمثَّل بأبيات ابن الزبعري:
ليت أشياخي ببدرشهدوا لأهلّوا واستهلّوا فرحاً قد قتلنا القرم من ساداتهم لعبت هاشم بالملك فلا لست من خندف إن لم أنتقم جزع الخزرج من وقع الأسل ثم قالوا يا يزيد لا تشل وعدلناه ببدر فاعتدل خبر جاء ولا وحي نزل من بني أحمد ما كان فعل
قال الراوي: فقامت زينب بنت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فقالت:
الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه كذلك يقول: (ثُمّ كَانَ عَاقِبَةَ الّذِينَ أَسَاءُواْ السّوَءَىَ أَن كَذّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ) [20] أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أنّ بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة؟ وأن ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوثقة والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً أنسيت قول الله تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ أَنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوَاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مّهِينٌ) [21].
أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وأماءك وسوقك بنات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سبايا قد هتكت ستورهنّ وأبديت وجوههن تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههن القريب والبعيد، والدنيّ والشريف ليس معهن من رجالهن ولي، ولا من حماتهن حمي؟ وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والأحن والأضغان؟ ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:
لأهلوا واستهلوا فرحاً ثم قالوا يا يزيد لا تشل
منتحياً على ثنايا أبي عبد الله عليه السّلام سيّد شباب أهل الجنّة، تنكتها بمحضرتك وكيف لا تقول ذلك؟ وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم فلتردّن وشيكاً موردهم، ولتودّن أنك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت.
(اللهم خذ لنا بحقّنا وانتقم ممّن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا).
فوالله، ما فريت إلاّ جلدك، ولا حززت إلا لحمك، ولتردّن على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم ويلم شعثهم، ويأخذ بحقهم (وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ)[22] وحسبك بالله حاكماً، وبمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم خصيماً وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم من سوّل لك ومكنّك من رقاب المسلّمين، بئس للظالمين بدلاً، وأيّكم شر مكاناً وأضعف جُنداً.
ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك إنّي لأستصغر قدرك، واستعظم تقريعك واستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرّى، ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطّف من دمائنا والأفواه تنطّف من دمائنا والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفرها أمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً حين لا تجد إلا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد، فإلى الله المشتكى، وعليه المعول، فكد كيدك واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله، لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولاتدرك أمدنا ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيّامك إلاّ عدد وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين، فالحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يُكمِّلَ لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ابكوا كثيراً[23]
لمَّا أتى عليّ بن الحسين عليه السّلام بالنّسوة من كربلاء وكان مريضاً وإذا نساء أهل الكوفة ينتدبن مشققات الجيوب، والرجال معهن يبكون، فقال زين العابدين بصوت ضئيل وقد نهكته العلّة: إن هؤلاء يبكون، فمن قتلنا غيرهم فأومأت زينب بنت عليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى النّاس بالسكوت.
قال حذيم الأسدي: فلم أر والله خَفِرة أنطق منها كأنَّما تنطق وتفرغ عن لسان أمير المؤمنين عليه السّلام، وقد أشارت إلى النّاس بأنْ أنصتوا، فارتدت الأنفاس، وسكنت الأجراس، ثم قالت بعد حمد الله تعالى والصلاة على رسوله:
أما بعد! يا أهل الكوفة يا أهل الختر[24] والغدر والحدل[25]! ألا فلا رقأت العبرة، ولا هدأت الزفرة، إنما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قُوّة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، هل فيكم إلا الصلف والعجب، والشنف والكذب، وملق الإماء، وغمز الأعداء كمرعى على دمنة، أو كقصة على ملحودة، ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
أتبكون على أخي؟! أجل والله، فابكوا، فإنكم والله أحق بالبكاء فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فقد بليتم بعارها، ومنيتم بشنّارها، ولن ترحضوها أبداً، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبّوة، ومعدن الرسالة، و سيّد شباب أهل الجنّة وملاذ حربكم، ومعاذ حزبكم، ومقرّ سلّمكم وآسى كلمكم، ومفزع نازلتكم، والمرجع إليه عند مقالتكم، ومدرة حججكم، ومنار محجتكم، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم وساء ما تزرون ليوم بعثكم، فتعساً تعساً، ونكساً نكساً، لقد خاب السعي وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلّة والمسكنة.
أتدرون ويلكم أيّ كبد لمحمّد (ص) فريتم؟! وأيَّ عهد نكثتم؟! وأي كريمة له أبرزتم؟! وأي حرمة له هتكتم؟ وأي دم له سفكتم؟! لقد جئتم شيئاً إدّاً تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض وتخرُّ الجبال هدّاً، لقد جئتم بها شوهاء (صلعاء عنقاء سواء فقماء) خرقاء طلاع الأرض و (ملء) السماء، أفعجبتم أن لم تمطر السماء دماً؟ ولعذاب الأخرة أخزى وهم لا ينصرون، فلا يستخفنّكم المهل فإنه عزَّ وجلَّ من لا يحفزه البدار ولا يخشى عليه فوت الثأر، كلا إنَّ ربَّك لنا ولهم بالمرصاد ثم أنشأت تقول:
ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم بأهل بيتي وأولادي ومكرمتي ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم إني لأخشى عليكم أن يحلَّ بكم ماذا صنعتم وأنتم آخر الأمم؟ منهم أسارى ومنهم ضرَّجوا بدم.؟ أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي مثل العذاب الذي أودى على إرم
ثم ولّت عنهم.
قال حذيم: فرأيت النّاس حيارى قد ردّوا أيديهم في أفواههم، فالتفتُّ إلى شيخ إلى جانبيّ يبكي وقد أخضلّت لحيته بالبكاء، ويده مرفوعة إلى السماء، وهو يقول: بأبي أنتم وأمي كهولهم خير الكهول، وشبابهم خير شباب ونسلهم نسل كريم، وفضلهم فضل عظيم، ثم أنشد شعراً:
كهولهم خير الكهول ونسلهم إذا عدَّ نسل لا يبور ولا يخزى
فقال عليّ بن الحسين عليه السّلام: يا عمة، اسكتي، ففي الباقي من الماضي إعتبار، وأنت بحمد الله عالمة غير معلّمة، فهمة غير مفهَّمة، إن البكاء والحنين لا يردّان من قد أباده الدهر، فسكتت ثم نزل عليه السّلام وضرب فسطاطه وأنزل نساءه ودخل الفسطاط.
متفرقات
الآن عرفنا الحرمان[26]
أن زينب عليها السّلام عند وفاة أمها، وهي تجر رداءها وتنادي: يا أبتاه، يا رسول الله، الآن عرفنا الحرمان من النظر إليك.
الآن حقاً فقدناك[27]
وخرجت أم كلثوم وعليها برقعة تجرُّ ذيلها، متجلببة برداء عليها تسحبهما وهي تقول: يا أبتاه، يا رسول الله، الآن حقّاً فقدناك فقداًَ لا لقاء بعده أبداً.
رأيت البارحة رؤيا [28]
لمّا دنت الوفاة من النبيّ (ص)، رأى كلٌّ من أمير المؤمنين والزهراء عليهما السّلام رؤيا تدل على وفاته (ص) فأخذا بالبكاء والنحيب، فجاءت زينب، إلى جدها رسول الله (ص) وقالت: يا جدّاه، رأيت البارحة رؤياً أنها انبعثت ريح عاصفة سودّت الدنيا وما فيها وأظلمتها، وحرّكتني من جانب إلى جانب، فرأيت شجرة عظيمة فتعلّقت بها من شدة الريح، فإذا بالريح قلعتها وألقتها على الأرض، ثم تعلّقت على غصن قوي من أغصان تلك الشجرة فقطعتها أيضاً، فتعلّقت بفرع آخر فكسرته أيضاً، فتعلّقت على أحد الفرعين من فروعها فكسرته أيضاً، فاستيقظت من نومي. فبكى (ص) وقال: الشجرة جدّك، والفرع الأول أمّك فاطمة، والثاني أبوك عليّ، والفرعان الآخران هما أخواك الحسنان، تسودُّ الدنيا لفقدهم، وتلبسين لباس الحداد في رزيتهم.
هذا حسين بالعراء[29]
قال العلامة المقرّم (ره): فقلن النّسوة: بالله عليكم إلاّ ما مررتم بنا على القتلى، ولمّا نظرن إليهم مقطّعين الأوصال قد طعمتهم سمر الرماح، ونهلت من دمائهم بيض الصفاح، وطحنتهم الخيل بسنابكها، صحن ولطمن الوجوه، وصاحت زينب:
يا محمّداه، هذا حسين بالعراء، مرمَّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، وذرّيتك مقتّلة، فأبكت كلَّ عدو وصديق حتى جرت دموع الخيل على حوافرها، ثم بسطت يديها تحت بدنه المقدّس ورفعته نحو السماء، وقالت: إلهي تقبّل منّا هذا القربان.
سمعت هاتفاً يقول [30]
أن الحسين عليه السّلام لمّا نزل الخزيمة أقام بها يوماً وليلة، فلمّا أصبح أقبلت إليه أخته زينب عليها السّلام فقالت:
يا أخي ألا أخبرك بشيء سمعته البارحة؟
فقال الحسين عليه السّلام: وما ذاك؟
فقالت: خرجت في بعض الليل لقضاء حاجة، فسمعت هاتفاً يهتف ويقول:
<ألا يا عين فاحتفلي بجهد/nobr> ومن يبكي على الشهداء بعدي على قوم تسوقهم المنايا بمقدار إلى إنجاز وعد
فقال لها الحسين عليه السّلام: يا أختاه، كل الذي قضى فهو كائن.
الأصوات قد اقتربت[31]
لمّا كان اليوم التاسع من المحرَّم زحف عمر بن سعد إلى الحسين عليه السّلام بعد العصر والحسين عليه السّلام جالس أمام بيته، محتب بسيفه إذ خفق برأسه على ركبتيه، فسمعت أخته الضجة، فدنت من أخيها فقالت:
ياأخي، أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت؟ فرفع الحسين عليه السّلام رأسه فقال: إني رأيت رسول الله (ص) السّاعة في المنام، فقال لي: إنك تروح إلينا، فلطمت أخته وجهها، ونادت بالويل، فقال لها الحسين عليه السّلام: ليس لك الويل يا أختاه، اسكتي رحمك الله.
واثكلاه[32]
قال عليّ بن الحسين عليه السّلام: إني لجالس في صبيحتها وعندي عمّتي زينب تمرّضني إذ اعتزل أبي في خباء له وعنده جوين مولى أبي ذر الغفاري، وهو ـ أي جون ـ يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول:
يا دهر أفٍّ لك من خليل من صاحب أو طالب قتيل وإنّما الأمر إلى الجليل كم لك بالإشراق والأصيل والدهر لا يقنع بالبديل وكل حيّ سالك سبيلي
فأعادها مرّتين أو ثلاثة حتى فهمتها وعرفت ما أراد، فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت، وعلمت أن البلاء قد نزل، وأمّا عمّتي فإنها لمّا سمعت وهي امرأة ومن شأن النّساء الرّقة والجزع فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها وإنها لحاسرة حتى انتهت إليه فقالت:
واثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي عليّ وأخي الحسن، ياخليفة الماضين وثمال الباقين، فنظر إليها الحسين عليه السّلام؛ فقال لها: يا أخيّة، لا يذهبنّ بحلمك الشيطان ـ وترقرقت عيناه بالدّموع ـ وقال: لو ترك القطا يوماً لنام، فقالت: يا وليتاه، أفتغتصب نفسك اغتصاباً فذلك أقرح لقلبي وأشدُّ على نفسي، ثم لطمت وجهها وهوت إلى جيبها فشقتّه وخرّت مغشّياً عليها... يا حبيباه [33]
لمّا قتل عليّ بن الحسين الأكبر عليه السّلام خرجت زيبت أخت الحسين عليه السّلام مسرعة تنادي:
يا حبيباه، ويا ابن أخيّاه، وجاءت حتّى أكبّت عليه؛ فأخذ الحسين عليه السّلام برأسها فردّها إلى الفسطاط.
يا محمّداه[34]
لمّا كان اليوم الحادي عشر بعد قتل الحسين عليه السّلام حمل ابن سعد معه نساء الحسين عليه السّلام وبناته وأخواته فقالت النّسوة: بحق الله إلاّ ما مررتم بنا على مصرع الحسين عليه السّلام، فمروا بهن على المصرع؛ فما نظرت النّسوة إلى القتلى، فوالله، لا أنسى زينب بنت عليّ عليها السّلام وهي تندب الحسين وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب:
يا محمّداه، صلّى عليك مليك السماء، هذا حسينك مرمّل بالدمّاء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى، وإلى محمّد المصطفى، وإلى عليّ المرتضى، وإلى فاطمة الزهراء، وإلى حمزة سيّد الشهداء؛ يا محمّداه، هذا حسين بالعراء، تسفي عليه ريح الصبا، قتيل أولاد البغايا؛ واحزناه واكرباه عليك يا أبا عبد الله، اليوم مات جدّي رسول الله؛ يا أصحاب محمّد، هؤلاء ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا.
وفي بعض الروايات: وامحمّداه، بناتك سبايا، وذريّتك مقتلة، تسفي عليهم ريح الصبا، وهذا حسين محزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والردا؛ بأبي من أضحى عسكره يوم الإثنين نهباً، بأبي من فسطاطه مقطع العرى، بأبي من لا غائب فيرتجى، ولا جريح فيداوى، بأبي من نفسي له الفداء، بأبي المهموم حتى قضى، بأبي العطشان حتى مضى، بأبي من شيبته تقطر بالدماء، بأبي من جدّه رسول إله السماء، بأبي من هو سبط نبيّ الهدى، بأبي محمّد المصطفى، بأبي خديجة الكبرى، بأبي عليّ المرتضى، بأبي فاطمة الزهراء، بأبي من ردّت له الشمس حتى صلّى، فأبكت والله، كل عدو وصديق.
زينب عليها السّلام ترثي أخاها[35]
ولزينب عليها السّلام في رثاء الحسين عليه السّلام:
على الطفّ السّلام وساكنيه نفوس قدست في الأرض قدساً مضاجع فتية عبدوا فناموا علتهم في مضاجعهم كعاب وصيرت القبور لهم قصوراً وروح الله في تلك القباب وقد خلقت من النطف العذاب هجوداً في الفدافد والروابي باردات منعمة رطاب مناخاً ذات أفنية رحاب
هذا ما وعد الرحمان [36]
كنت فيمن استقبل زينب بنت عليّ لمّا قدمت مصر بعد المصيبة، فتقدم إليها مسلّمة بن مخلد، وعبد الله بن الحارث وأبو عميرة المزني فعزّاها مسلّمة وبكى، فبكيت وبكى الحاضرون، وقالت:
(هَذَا مَا وَعَدَ الرّحْمـَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [37] ثم احتملها إلى داره بالحمراء..
واأهل بيتاه![38]
وخرجت زينب ـ حين هوى عليه السّلام إلى الأرض ـ من الفسطاط وهي تنادي: وا أخاه! وا سيّداه! واأهل بيتاه! ليت السماء أطبقت على الأرض! وليت الجبال تدكدكت على السهل!
اليوم مات جدّي[39]
فوالله، لا أنسى زينب بنت عليّ عليه السّلام وهي تندب الحسين وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب:
وامحمّداه! صلّى عليك مليك السماء، هذا حسين مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى، وإلى محمّد المصطفى، وإلى عليّ المرتضى وإلى حمزة سيّد الشهداء، وا محمّداه! هذا حسين بالعراء، يسفي عليه الصبا، قتيل أولاد البغايا، يا حزناه! يا كرباه! اليوم مات جدّي رسول الله. يا أصحاب محمّداه! هؤلاء ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا!.
وفي بعض الروايات: يا محمّداه! بناتك سبايا، وذريتك مقتّلة، تسفي عليهم ريح الصبا، وهذا حسين محزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والرداء، بأبي من عسكره في يوم الإثنين نهباً، بأبي من فسطاطه مقطّع العرى، بأبي من لا هو غائب فيرتجى، ولا جريح فيداوى، بأبي من نفسي له الفداء، بأبي المهموم حتّى قضى، بأبي العطشان حتّى مضى، بأبي من شيبته تقطر بالدماء، بأبي من جدّه رسول إله السماء، بأبي من هو سبط نبيّ الهدى، بأبي ابن محمّد المصطفى، بأبي ابن خديجة الكبرى، بأبي ابن عليّ المرتضى، بأبي ابن فاطمة الزهراء سيّدة النّساء، بأبي ابن من ردّت عليه الشمس حتى صلّى.
قال: فأبكت والله، كلّ عدوّ وصديق.
أمسى نحيراً[40]
لمّا مرّوا بالأسرى على قتلاهنَّ، وقفت السيّدة زينب (سلام الله عليها) على أخيها، فلمّا رأته بتلك الحالة بكت وصاحت:
واأخاه وا سيّداه، ثمّ توجّهت نحو المدينة تخاطب جدّها وهي تقول: يا رسول الله:
هذا الذي قد كنت تلثم نحره من بعد هجرك يا رسول الله أمسى نحيراً من حدود ظُبائها قد ُلقي طريحاً في ثرى رمضائها
يا
نور ديني ودنياي[41]
ولمّا تراءت القبور لحرم الرسول (صلّى الله عليه وآله) العائدات من الأسر ألقت تلك الثواكل بأنفسهنّ عليها وأخذت كلّ واحدة منهن تعدّد ما جرى عليها، وأمّا السيّدة زينب (عليها السّلام) فإنّها صرخت ونادت:
"يا أخاه! يا أخاه! ويا ابن امّاه! وقرّة عيناه! بأيّ لسان أشكو إليك من الكوفة والشام، وإيذاء القوم اللّئام، ومن أيّ المصائب أشرح لك من الضرب والشتم، أو من شماتة أهل الشام، ثمّ أخذت تعدّد مصائبها لأخيها وهي تبكي كالثكلى ثمّ أنشأت تقول:
يا نور ديني والدنيا وزينتها وا ضيعتي يا أخي من ذا يلاحظنا خلّفتنا للعدى ما بين ضاربنا كنّا نرجيك للشدّات فانقلبت يا ليتني متّ لم أنظر مصارعكم يسيّرونا على الأقتاب عارية يصفّقون علينا تحفَّهم فرحاً يا نور مسجدنا يا نور دنيانا من كان يكفلنا من ذا يدارينا وبين ساحبنا وبين سابينا بنا الليالي فخاب الظنّ راجينا أو لم نر الطفّ ما عشنا ولا جينا كأنّنا لم نشيّد فيهم دينا وأنّهم في فجاج الأرض يسبونا
ثم أنّت وبكت بكاءً شديداً حتّى أبكت أهل الأرض والسماء.
كيف ألقى أهل المدينة؟[42]
ثمّ أنّ الإمام زين العابدين (عليه السّلام) لمّا رأى ذلك البكاء والاضطراب من عمّته زينب (عليها السّلام) أشفق عليها وقال لها ما مضمونه: يا عمّتاه، أنت عارفة كاملة والحمد لله، فلا تجزعي واصبري واستقرّي، فقالت له السيّدة زينب (عليها السّلام) بحرقة وأنين وقد عرفت عزمه على الرحيل:
يا ابن أخي، ويا قرّة عيني، دعني أقيم عند أخي حتّى يأتي يوم وعدي، لأنّي كيف ألقى أهل المدينة وأرى الدور الخالية؟ ثمّ صرخت ونادت: وا أخاه! وا حسيناه! ".
إنْ بكت نفسي[43]
أنّ السيّدة زينب (عليها السّلام) لمّا عادت مع الأسرى إلى كربلاء وهم في طريقهم إلى المدينة ودّعت قبر أخيها الإمام الحسين (عليه السّلام) وهي تقول:
أخي إن بكت نفسي أسىً فلعلّني أخي ما الحجى لي عن حجى لي بحاجب أخي أيّ أحداث الطوارق أشتكي أخي من عمادي في زمان تصرّفي أخي قد نفى عني الزمان سعادتي أخي إن رمتني الحادثاتُ برميها أخي للرزايا حسرة مستمرة أخي إن يكن في الموت من ذاك راحة بكيت لأمر عن أساك عناني ولا عنك إذ أبكي نُهاي نهاني فقد فضّ جمعي طارق الحدثان ومن أرتجيه في صروف زماني ولم يبق إلاّ شقوتي وهواني فقد كنت فيها عدّتي وأماني فوا شقوتا مما يجنّ جناني فراحة نفسي أن يكون أتاني
ابكو على الغريب[44]
أن السيّدة زينب (عليها السّلام) لمّا عادت إلى كربلاء وأرادت الخروج منها قالت عند خروجها: يا أخي! لقد كنت ليتاماك في طريق الشام كالأب الرؤوف ولبناتك كالأمّ الرؤوم، وكنت أتلقّى السياط برأسي وكتفي لأدفع بها عن أطفالك، وكانت أختي أمّ كلثوم أيضاً كذلك تقي أطفالك من السياط بنفسها ورأسها وكتفها.
وعن كتاب مفتاح البكاء: أن السيّدة زينب (عليها السّلام) قالت بعد ذلك: "يا قوم، ابكوا على الغريب التريب، الذي منع من الفرات، ووضع بالعراء عرياناً، ورفع رأسه على القناة، السيوف غاسله، والتراب كافوره، ملطّخ بالدماء، ومطروح في أرض كربلاء".
على الطفّ السّلام[45]
ثمّ إنّ موكب أهل البيت (عليهم السّلام) لمّا رحلوا عن كربلاء في طريقهم إلى المدينة، وابتعدوا عنها أحسّوا بألم الفراق وشعروا بصعوبة الابتعاد فأجهش الجميع بالبكاء والنياحة، وأنشأت السيّدة زينب (عليها السّلام) تخاطب كربلاء ومصارع الأحبّة فيها وهي تقول:
على الطفّ السّلام وساكنيه نفوساً قدّست في الأرض قدماً مضاجع فتية عبدوا وناموا علتّهم في مضاجهم كعابٌ وصيّرت القبور لهم قصوراً لئن وارتهم أطباق أرض فقد نقلوا إلى جنات عدن يبخل بالفرات على حسين فلي قلب عليه ذو التهاب وروح الله في تلك القباب وقد خلصت من النطف العذاب هجوعاً في الفدافد والشعاب بأوراق منعّمة رطاب مناخاً ذات أفنية رحاب كما غمدت سيوف في قراب وقد عيضوا النعيم من العذاب وقد أضحى مباحاً للكلاب ولي جفن عليه بانسكاب
يا أمّاه رجعنا![46]
ولمّا قرب موكب أهل البيت (عليهم السّلام) من المدينة تذكّرت السيّدة زينب (عليها السّلام) أمّها فاطمة الزهراء (عليها السّلام) فاستعبرت باكية وهي تقول:
"يا أمّاه، رجعنا وقلوبنا مقروحة، وجفوننا من البكاء مجروحة، ورجالنا مقتولة، وأموالنا منهوبة". ثمّ إنّهم نزلوا خارج المدينة ونصبوا الخيام بأمر الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، ونصبوا خيمة الإمام الحسين (عليه السّلام) التي لم ينصبوها في مكان سوى هذا المكان، فلمّا رأته النّسوة خرجن وبكين، وأبكين كلّ الحاضرين، وأمّا السيّدة زينب (عليها السّلام) غشي عليها من شدّة البكاء حتّى إذا أفاقت خرجت ونادت:
"وا فرقتاه! وا فرقتاه! أين الكماة واين الحماة؟ وا لهفاه" ثم قالت:
فما لي لا أروي الحِمام بمهجتي وكنت بحقّ نور عيني وعزتي
ثمّ قالت: "يا أخي يا حسين! هؤلاء جدّك وأمّك وأخوك الحسن، وهؤلاء أقرباؤك ومواليك ينتظرون قدومك ويسألوني عنك، فما جوابي؟ فكيف أتكلّم وما عساني؟ يا نور عيني قد قضيت نحبك وأورثتني حزناً طويلاً، يا ليتني متّ وكنت نسياً منسياً"، ثمّ توجّهت نحو المدينة وقالت: "أيا مدينة جدي! فأين يومنا الذي قد خرجنا منك بالفرح والمسرّة والجمع والجماعة، ولكن رجعنا إليك بالأحزان والآلام من حوادث الزمانِ والأيّام، فقدنا الرجال، وآلَ أمرنا إلى الشتات، ودخل الزّمان علينا، وفرّق بيننا الزمان مفرق الأحباب" ثمّ التفتت إلى روضة جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقالت: "يا جدّاه! أنا ناعية إليك من بناتك وبنيك".
-----------------------------------------
[1] ـ عوالم سيّدة النّساء 1/219 ، عن الثاقب في المناقب : عن زينب بنت عليّ عليه السّلام قالت :
[2] ـ آل عمران : 37.
[3] ـ كامل الزيارات ص263.
[4] ـ عوالم سيّدة النّساء 2/954.
[5] ـ أمالي المفيد 40، ح8 : أخبرني أبو بكر محمّد بن عمر الجعابي ، قال : أخبرنا أبو عبد الله جعفر بن محمّد بن جعفر الحسني ، قال : حدثنا عيسى بن مهران، عن يونس ، عن عبد الله بن محمّد بن سليمان الهاشمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن زينب بنت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، قالت: ..
[6] ـ بعض النسخ، (فقد نكبوا).
[7] ـ مقتل الحسين عليه السّلام للمقرم ص359 قال :
[8] ـ عوالم سيّدة النّساء 2/965 عن إرشاد المفيد قال:
[9] ـ الزمر: الآية 42.
[10] ـ الاحتجاج : 2/29.
[11] ـ عوالم سيّدة النّساء 2/ 974 روى أهل المقاتل: ...
[12] ـ عوالم سيّدة النّساء 2/ 974: ...
[13] ـ عوالم سيّدة النّساء 2/975: ...
[14] ـ اللهوف 64 ـ 65
[15] ـ خَفِرةَ: الخَفَر شدة الحياء، وامرأة خَفِرة: صَيَية مُتخِّفرة.
[16] ـ بحار الأنوار 45/115
[17] ـ السبج معرب شبه وهو حجر أسود شديد السواد براق وله فوائد طبية، وكثيراً ما يشبه به الأشياء سواداً كقول الحكيم الطوسي : (شبي چون شبه روى شسته بقير) وبه سموا السبيج والسبيجة والسبجة للثوب الأسود وقد صحفت الكلمة تارة بالشيخ كما في الأصل وتارة بالشيخ كما في الكمباني . اما النصل والانتصال: فهوخروج اللحية من الخضاب ومنه لحية ناصل.
[18] ـ اللهوف 69 ـ 70 ومثير الأحزان 90 ـ 91.
[19] ـ اللهوف 79 ـ 81.
[20] ـ الروم : 10
[21] ـ آل عمران : 178.
[22] ـ سورة آل عمران: آية 169.
[23] ـ بحار الأنوار: 45/162 عن حذيم بن شريك الأسدي قال :
[24] ـ الختر: أسوأ الغدر وأقبحه.
[25] ـ الحَدْل: ضد العَدْل.
[26] ـ عوالم سيّدة النّساء 2/946 : وقد روى صاحب (ناسخ التواريخ) في كتابه..
[27] ـ عوالم سيّدة النّساء 2/ 946 ، عن البحار، قال.....
[28] ـ عوالم سيّدة النّساء 2/946...
[29] ـ مقتل الحسين عليه السّلام لل سيّد المقرم ص396...
[30] ـ عوالم سيّدة ا لنساء 2/961 : قال السيّد محسن الأمين في أعيان الشيعة : روى ابن طاوس [31] ـ عوالم سيّدة النّساء 2/961 : وقال الشيخ المفيد (ره)..
[32] ـ عوالم سيّدة النّساء 2/962 : وقال الشيخ المفيد (ره) ...
[33] ـ عوالم سيّدة النّساء 2/964 : وقال المفيد (ره) ..
[34] ـ عوالم سيّدة النّساء 2/964 : وقال السيّد ابن طاوس..
[35] ـ عوالم سيّدة النّساء 2/975
[36] ـ عوالم سيّدة النّساء 2/977 : بالسند المرفوع إلى رقية بنت عقبة بن نافع الفهري ، قالت:..
[37] ـ يس : 52.
[38] ـ بحار الأنوار : 45/54
[39] ـ بحار الأنوار: 45/ 58
[40] ـ ناسخ التواريخ: 2/541: ...
[41] ـ ناسخ التواريخ: 2/504:...
[42] ـ ناسخ التواريخ: 2/514:...
[43] ـ ناسخ التواريخ: 2/521:... وفي كتاب رياض الشهادة:...
[44] ـ ناسخ التواريخ: 2/521:...، وفي كتاب رياض الشهادة:...
[45] ـ ناسخ التواريخ: 2/516:...
[46] ـ ناسخ التواريخ: 2/520:...
التعلیقات