سكينة مع الله تعالى
سيّد عبد الرزاق المقرم
منذ 13 سنةجاء الحديث : إن الحسن المثنى بن الحسن بن أمير المؤمنين عليه السلام اتى عمه أبا عبدالله الحسين عليه السلام يخطب إحدى ابنتيه فاطمة وسكينة ، فقال له ابو عبدالله عليه السلام اختار لك فاطمة فهي اكثرها شبهاً بأمي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ، اما في الدين فتقوم الليل كله وتصوم النهار ، وفي الجمال تشبه الحور العين ، واما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله تعالى فلا تصلح لرجل. (1)
إن هذه الكلمة الذهبية من سيد شباب أهل الجنة عليه السلام تفيدنا درساً بليغاً عن مكانة ابنته ( سكينة ) من الشريعة المقدسة وان اختها الطاهرة مهما حازت الثناء الغير متناهي لا تبلغ شأوها ، ولا تجاريها في رهبانية وتجرد عن اللذات وإنقطاع عن الدنيا الفانية ، وكيف لا تكون كذلك
وهي إبنة معدن القداسة عجنت طينتها بماء النزاهة فكانت متأثرة بحسن التربية ، وكرم الاخلاق ، فهي مثال السؤدد ، وقد جللها الشرف مطارفاً من الحياء والعفة ، فقول الامام الشهيد عليه السلام : ( غالب عليها الاستغراق مع الله ) ، يشير الى ان ابنته الكريمة كانت سابحة بين امواج الفناء في الله سبحانه ( ان لم نقل البقاء بالله ) وقد انعكست في مرآة نفسها لواعج الجلال والجمال الالهى ، فاينما توجهت لا تجد الا تلك الصفات المنتقشة فيها المعاني القدسية ، ولا ترى لغيرها كياناً ولا تعتبر لأي جمال خطراً ولا لأي مال معتبراً ولا تحسب ان لسوى ما شاهدته مدكراً.إن هذه الكلمة الذهبية من سيد شباب أهل الجنة عليه السلام تفيدنا درساً بليغاً عن مكانة ابنته ( سكينة ) من الشريعة المقدسة وان اختها الطاهرة مهما حازت الثناء الغير متناهي لا تبلغ شأوها ، ولا تجاريها في رهبانية وتجرد عن اللذات وإنقطاع عن الدنيا الفانية ، وكيف لا تكون كذلك
وإذا كان عشق الانسان يعشي البصر عن غير المعشوق ولا يشعر العاشق بكل ما يلاقيه عند توجه مشاعره نحوه ، كما لم تشعر النسوة بألم قطع المدية أيديهن عند توجه مشاعرهن نحو الصديق يوسف عليه السلام ( وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) (2).
فالعشق الحقيقي لمظاهر الجمال الالهي أولى بأن يقف سدا دون ما سواه كما لم يشعر أصحاب الحسين عليهم السلام بما لاقوه من ألم الجروح الدامية (3) بعد تكهربهم بولاء سيد الشهداء وتوجه مشاعرهم نحو الجمال القدسي الآلهي ونزوع أنفسهم الى الغاية القصوى من القداسة.
وابنة النبوة " السيدة سكينة " بلغت من عظيم مجاهدة النفس إلى حد لم يبق لها نزوع الا الى صقع القداسة والاندفاع الى مركز الفناء في الله عزوجل وليس لها لفتة الى نواميس الحياة والانعطاف الى لوازم المعاشرة مع الناس فهي بين عبادة وزهادة وتذكير وتفكير وهذا معنى الاستغراق مع الله تعالى.
وكانت من اللاتي شغلتهن الآخرة عن الاولى فلا يرين لغير المولى تعالت آلاؤه كياناً يجلب النظر اليه ولا الى معاشرة من ليست هي مثلها في السلوك والرياضة.
الوضاعون(4)
ان أضداد للبيت العلوي كمصعب الزبيري وابن اخيه الزبير بن بكار والهيثم بن عدي الطائي الكوفي وصالح بن حسان وأشعب الطامع وأضرابهم أرادوا أن يشوهوا مقام هذا البيت الطاهر بكل ما لهم من حول وطول وحيث انهم لم يتمكنوا من نسبة المفتريات إلى من وجبت فيهم العصمة من الأئمة الهداة عمدوا الى أولادهم وبناتهم فاختلقوا في حقهم كل شائنة تخرجهم عن الدين وتوقف البسطاء عن الانضواء اليهم والى سلفهم طمعاً في وفر ملوك الزمان وقد حصل هناك من يحسب ان سعة العلم في الاكثار من الروايات ولو من غير تثبت في النقل فاختلط الحابل بالنابل والصحيح بالسقيم وديف السم في الدسم.
غير ان الاستضائة بنور العلم الصحيح وتمحيص الحقائق كشفت عن عوار تلك الأحاديث ، ووضح ان هؤلاء الرجال الذين أكثروا من رواة هذه الاكاذيب لم يعتمد عليهم علماء الرجال ولم يجعلوا لاحاديثهم قيمة تذكر فسدوا ثغرة معرة اولئك الدساسين باخراجهم عن صفوف من يعتمد على مروياته تمحيصاً للاخبار عن وصمة التدجيل.
سكينة في كربلاء (5)
واذا كان أئمة الهدى من عترة المصطفى الذين جعلهم الله حجة على البشر بعد النبوة يعلمون الأمة ما فيه مناجحهم ويأخذ بهم الى سعادة الدارين فلا يضنون بمن يتربى في حجورهم من ذكور واناث عن اضائة الطريق الموصل لهم الى الغايات السامية والتنكب عما لا يلائم خطتهم ويستحيل على من تغذى در الامامة تربى في حجور الطاهرين ودرس التعاليم الآلهية الاسفاف مع أهل المجون والأهواء.
والسيدة سكينة حضنتها الحجور الزاكية وتلقت من أبيها سيد الشهداء التعاليم الراقية والآداب الآلهية ودرست القيم الاسلامية وجارت في المجاهدة والرياضة جدتها الصديقة وعمتها العقيلة حتى حازت ارقى مراتب العبادة التي يرضاها رب العالمين ومن هنا منحها الإمام الحجة الواقف على نفسيات البشر ومقادير اعمالهم ارقى صفة تليق بامرأة كاملة تفانت في طاعة الله تعالى وهي ( خيرة النساء ).
( من هذا وذاك صحبها ( ابي الضيم ) الى محل شهادته في جملة من انتخبهم الباري سبحانه دعاة لدينه فشاهدت بين تلك الثنايا والعقبات الآيات المنذرة بتدابير النفوس وتخاذل القوم عن نصر الهدى واجتماعهم على ازهاق نفس ريحانة الرسول صلى الله عليه وآله واراقة ( دمه الطاهر ) وانهم قادمون على عصبه لا ترقب فيهم إلا ولا ذمة فلم تعبء بتلكم الأهوال التي يشيب لها فود الطفل تسليماً للقضاء وطاعة للرحمن عز شأنه.
وشاهدت اولئك المناجيد مضرجين بالدماء مقطعين الأوصال وبينهم علة الكائنات ومدار الموجودات ابو عبدالله الحسين عليه السلام : وقد مثلوا فيه بكل مثلة.
ووجهوا نحوه في الحرب أربعة السهم والسيف والخطي والحجرا
فقابلت تلكم الفوادح برباطة جأش وهدوء بال ولولا انخراطها في الاستغراق مع الله تعالى وتفانيها في الطاعة له كما اخبر أبوها الحجة عليه السلام بقوله ( الغالب عليها الاستغراق مع الله ) لا نهد قواها وساخ صبرها وتبليل فكرها وفقدت مشاعرها ولكنها بالرغم من ذلك لم يرعها ذل الأسر ولا شماته العدو وتراكم الرزايا وأنين الأطفال وبكاء الفواقد فلم يصدر عنها ما لا يتفق مع الخضوع للأصلح المرضى لله تعالى.
ولو كان ( ابي الضيم ) يعلم بضعف عزمها وتفكك صبرها لما رافقها الى محل تضحيته لئلا يتسبب من تلكم الأهوال الوقوع في خطر عظيم.
ان ذلك المشهد الدامي الذي لم يمر على نبي أو وصي وقابله شهيد الدين بصبر تعجبت منه ملائكة السموات كما في نص زيارته ترك الجفون قرحى والعيون عبرى والقلوب حرى الى يوم الانقضاء على حد تعبير الامام ابي الحسن الرضي عليه السلام (6) ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله ان لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً (7) والسيدة سكينة ابصرت كل ما جرى في ذلك اليوم وسمعت صرخة ابيها المظلوم واستغاثته وشاهدت حرائر النبوة ومخدرات الامامة يتراكضن في تلك البيداء المقفرة حين شبت النار في مضاربهم ولا محامي يلذن به الا زين العابدين وقد انهكته العلة.
فلو أن ايوباً رأى بعض ما رأى لقال بلى هذا العظيمة بلواه
فلم يتضعضع صبرها ولا وهي تسليمها للقضاء الجاري ولم يتحدث المؤرخون عما ينافي ثباتها على الخطوب في الكوفة والشام مع ما لاقته من شماتة ابن مرجانة وابن ميسون ونكته بالعود رأس الحسين وأهل المجلس يشاهدون الأنوار تتصاعد من اسارير جبهته والروائح العطرة تفوح منه وهو يرمق حرمه بعينيه ولما أمر يزيد بقتل رسول ملك الروم لأنه أنكر عليه فعلته نطق الرأس المقدس بصوت جهوري " لا حول ولا قوة إلا بالله "(8)
فأخذت الناس الحيرة وراح الرجل يحدث جليسه بالضلال الذي عمهم وتحدثت اندية الشام بهذا الحادث الذي لم يسمع بمثله قبل يوم الحسين ولما رجعت السيدة الطاهرة سكينة الى المدينة اقامت في بيت أبيها أبي عبدالله مع نساء قومها لابسات السواد يبكين الحسين والبهاليل من آل عبد المطلب وزين العابدين يعمل لهن الطعام (9).
ويحدثنا أبو عبدالله الصادق عليه السلام عن حزن الفاطميات بقوله : ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت ولا رؤى الدخان في بيت هاشمي خمس حجج الى ان قتل عبيد الله بن زياد (10)
عاشت السيدة سكينة في بيت أخيها السجاد عليه السلام الذي لم يزل ليله ونهاره باكي العين على سيد شباب أهل الجنة وكان جوابه لمن يطلب منه التخفيف لئلا تذهب عيناه : اني ما نظرت الى عماتي واخواتي الا تذكرت فرارهن من خيمة الى خيمة وكان هذا دأبه في البكاء على ( قتيل العبرة ) الى ان استشهد صلوات الله عليه سنة 95 واذا كان عميد البيت لا يفتر عن النياحة مدة حياته فما ظنك بمن حواه البيت من النساء ومن شأنهن الرقة والجزع والسيدة سكينة تأوي هذا البيت المفعهم بالحزن والشجاء وفي مسامعها نشيج اخيها الحجة وتبصر تساقط دموعه على خديه فتشاركه في الزفرة وتجاوبه بالعبرة ولا تبارح فاكرتها الهياكل المضرجة بالدماء وقد شاهدتهم صرعى مقطعين الأوصال.
قد غير الطعن منهم كل جارحة الا المكارم في أمن من الغير
فهل تبقى لها لفتة الى لوازم الحياة فضلاً عن عقد مجالس الأنس والفرح بلى كانت السيدة العفيفة مدة حياة اخيها الامام وبعده باكية نادبة على ابيها المظلوم الممنوع من الورود وابوعبدالله حياة الكون وري الوجود ( والماء يصدر عنه الوحش ريانا ).
ولكن آل الزبير تحدثوا وافتعلوا واكثروا ( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ (11))
رثاؤها الحسين(12)
في أمالي الزجاج ( ص 109 طـ مصر ثانية ) ، مما رثت به سكينة أباها الشهيد قولها :
لا تعذليـه فهـم قـاطع طرقه إن الحسين غداة الـطف يرشقه بكـف شـر عبـاد الله كـلهم لكن على ابن رسول الله فانسكبي أأمة السوء هاتوا مـا احتجاجكم الويل حل بكـم إلا بمـن لحقه يا عين فاحتفلي طول الحياة دماً فـعينــه بدمـوع ذرف غدقـه ريب المنون فما ان يخطىء الحدقه نسـل البغايا وجيش المرق الفسقه غداً وجلكـم بالسيـف قـد صفقه صيرتموه لا رمـاح العـدى درقه لا تبك ولـداً ولا أهـلاً ولا رفقه قيحاً ودمـاً وفـي اثريهمـا العلقه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اسعاف الراغبين للصبان بهامش نور الابصار ص 202.
2 ـ سورة يوسف ، الآية 31.
3 ـ الخرايج للراوندي ص 138. طـ الهند.
4 ـ السيدة سكينة ابنة الامام الشهيد ابي عبدالله الحسين عليه السلام للسيّد عبد الرزاق المقرم: 49 .
5 ـ السيدة سكينة ابنة الامام الشهيد ابي عبدالله الحسين عليه السلام للسيّد عبد الرزاق المقرم: 80 ـ 83 .
6 ـ أمالي الصدوق ص 76 مجلس 27.
7 ـ مستدرك الوسائل ج 2 ص 217.
8 ـ مقتل الحسين او حديث كربلاء ص 15 الطبعة الثانية ص 401.
9 ـ المحاسن للبرقي المتوفي سنة 274 ج 2 ، ص 420.
10 البحار للمجلسي المتوفي سنة 1110 ج 10 ص 293 طبع الكبيني ايران.
11 ـ الزخرف / 83.
12ـ السيدة سكينة ابنة الامام الشهيد ابي عبدالله الحسين عليه السلام للسيّد عبد الرزاق المقرم:153.
التعلیقات