الأسرة.. بناء يحبه الله
موقع بلاغ
منذ 10 سنوات◄يحتل موضوع الأسرة في النظام الإسلامي منزلة ومرتبة خاصة تفوق سائر المواضيع
الاجتماعية وذلك للأهمية القصوى والمكانة الحساسة والخطيرة التي يمتاز بها، إذ تعتبر الأسرة النواة والبذرة الأساسية لتكون المجتمعات وقيامها وازدهارها. وبضمان صحة وسلامة هذه الهيكلية الاجتماعية الصغيرة يمكن ضمان صحة وسلامة المجتمع الأكبر، الذي تقوم قائمته باجتماع هذه الخلايا الإنسانية وعليها ترتكز أسسه ومنطلقاته.
وقد دأب القرآن الكريم في معالجة المواضيع الرئيسية والأساسية التي تعتبر أساس وقوام القضايا الأخرى والتعرض إلى جميع مفرداتها، انّه لم يهمل في معالجته لموضوع الأسرة دون أن تطرقا إلى العناوين الرئيسية فيه والتي على رأسها موضوع الزواج والزوجية. باعتباره الطريق الأساس لتكون هذه اللبنة الاجتماعية وتشييد هذا البناء العزيز الذي ما بني في الإسلام بناءاً أحب وأعز إلى الله منه. كما جاء في حديث الرسول الأكرم (ص) "حيث يقول: "ما بني في الإسلام بناءاً أحب إلى الله عزّ وجلّ واعز من التزويج". (بحار الأنوار، ج103، ص222)
- الزواج وبناء الأسرة:
قال رسول الله (ص): "ما بني في الإسلام بناء أحب إلى الله عزّ وجلّ، وأعز من التزويج" (بحار الأنوار، ج103، ص222)، عبّر الرسول (ص) عن الزواج بأنّه بناء عزيز، وبناء يحبه الله ورسوله، فلماذا هذا التأكيد على هذا الأمر إن لم تكن وراءه أهداف وغايات هي فوق ارواء الغريزة الجنسية وتأمين جانب الشهوة. أجل انّ الزواج وسيلة لبناء أغر كيان وأفضل محيط لبناء وتربية الإنسان الذي هو أكرم مخلوقات الله. وخليفة في الأرض وانّه وللرحمة الإلهية التي حف الله بها الزوجين والمودة التي انشأها بينهما واجراها في قلوب أحدهما للآخر كان قد هيئ الوسائل والسبل لتحقيق وتهيئة الجو المناسب والدافئ والمليء بالحب والعاطفة لترعرع ونشوء الأبناء وبالتالي الأجيال. إذن فإنّ التوالد ونشوء الأولاد وإن كان قد تم عبر التلاقي الجنسي والاجتماع الغريزي فإنّ هذا الأخير لا يعدو أن يكون وسيلة ولذة عابرة لتحقيق هدفاً أسمى من ذلك ألا وهو بناء الأسرة.
- التكاثر ومباهات الأُمم:
قال رسول الله (ص): "تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأُمم يوم القيامة". توسع الأمة وتكاثر الأجيال لا يتأتى إلا من خلال إنشاء هذه السنة الحسنة والعمل بها في أوساط الشباب ولابدّ لرفد المجتمع بالجيل الصاعد والأفراد الصالحين من توسيع دائرة الزواج على أساس القيم والمبادئ الإسلامية الرفيعة وإزالة كل العوائق والعقبات التي تحول دون إجراء هذه السنة الطيبة.
- حفظ الدين:
قال رسول الله (ص): "من تزوج فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي" (كنز العمال)، بحار الأنوار، ج103، ص219)، أغلب الذنوب إنما تأتي عبر السعي واللهث وراء الحرام من أجل تأمين احتياجات الطعام والجنس ومن استطاع أن يقي جانب الجنس بواقية الزواج ويحصن نفسه بالحلال ويؤمن نفسه من الولوج في مداخل الشيطان فقد احرز نصف الدين، لأنّ الدين هو الإمتثال للأوامر الاجتناب عن النواهي، ولا يتم الامتثال الكامل إلا بالاجتناب عما حرم الله من الذنوب والمعاصي ولهذا في مكان آخر يشير الرسول (ص) وفي حديث آخر إلى أنّ الزواج احراز نصف العبادة حيث يقول (ص): "مَن تزوج فقد اعطي نصف العبادة" (بحار الأنوار، ج103، ص220)، وبالزواج يستطيع العبد أن يقف أمام أعدى أعدائه نفسه وشيطانه ويسدل الستار على هذا المنفذ الذي يمكن للشيطان أن يلج منه بأشد وسائله، من هنا فإنّ الشيطان يعج ويضج ويضيق لما يرى العبد قد سد عليه الطريق بالزواج الحلال وعصم دينه منه كما جاء في الحديث المروي عن الرسول (ص) أيضاً حيث يقول: "أيما شاب تزوج في حداثة سنه عجّ شيطانه: ياويله! عصم مني دينه". (كنزل العمال)
- بناء الأفراد وتكامل شخصياتهم:
قال رسول الله (ص): "زوجوا اياماكم فإنّ الله يحسن لهم في أخلاقهم ويوسع لهم في أرزاقهم ويزيدهم في مرواتهم" (بحار الأنوار، ج103، ص122).
يحث الرسول (ص) في هذا الحديث على الزواج، لأنّ الزواج سيكون مدعاة لشعور الزوجين بالمسؤولية واندفاعهم لبناء عشهم الزوجي وتوفير أعلى امكانات السعادة والرفاه فيه، ولا نقصد بالإمكانات المادية، لا بل المعنوية فيسعى كل منهما لتحسين أخلاقه بالصورة التي ترضي صاحبه عنه ويتغاضى عن عثراته، وثمّ يجد ساعياً في تحصيل الرزق وتحمل المهام الملقاة على عاتقه تجاه زوجه.
- الحب الإنساني قبل كل شيء:
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم/ 21).
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) (الأعراف/ 189).
- بصائر وبينات:
أولاً: آيات الله وعجائب صنعه في الكون كثيرة وكلها تدلل على عظمة خالقها وتفرده وكبريائه. وانما أصبحت الآية آية لأنّها تُحكي عجز البشر عن الآيتان بمثلها وقدرة الله وإرادته النافذة فيها دون أن تكون لإرادة الإنسان أي دخل فيها.
والحب الإلهي الذي يجعله الله بين الزوجين هو إحدى تلك الآيات التي تعجز عن تفسيرها العلوم البشرية والنظريات النفسية، فالزوجين وقبل أن يقع العقد الشرعي بينهما كان كل واحد منهما غريب عن الآخر في أكثر التقادير، ولا تربطه به آية رابطة – هذا في غير العقد الحاصل بين الأقارب والأصدقاء، وحتى في حالة حصوله بين الأقرباء فإنّ العلاقة الحاصلة بين الزوجين بعد العقد هي فوق علاقة القرابة – حيث انّ كل من الزوجين كان قد جاء من محيط غريب بالنسبة للآخر ولكن ما أن تتم الموافقة على صيغة العقد من قبل الطرفين – الزوجين – حتى تجري هذه المحبة وتنساب في قلبيهما، هذا من أمر الله الذي لا يمكن أن يفقهه إلا العالمون وأولوا الألباب.
ثانياً: الحقيقة الثانية التي يمكن استخلاصها من الآيتين المذكورة، هو الأصل والجوهر الإنساني الواحد الذي خلق منه الذكر والأنثى، فالآيتين تشيران إلى انّ المبدأ واحد والحقيقة التي خلق منها كل من الرجل والمرأة واحدة، وانما جعل الله الحاجة والافتقار في كل منهما للآخر فيما اختلفا وتمايزا به. فقد جعل في تكوين الرجل الظاهري القوة والصلابة والخشونة تبعاً تتطلبه منه الوظيفة التي ألقيت إليه في تحمل مهام المعاش وتوفير مستلزمات الأسرة والانفاق عليها وإدارتها وما تستتبعه هذه المسؤوليات من حسم وإرادة وقوة عقل ورجاحة فكر وخوض في تجارب العمل الاجتماعي ودحض المشكلات ومواجهة الصعاب.
واقتضى تكوين المرأة المادي أو الجسمي توفرها على العاطفة والرقة والمحبة والجمال والظرافة وذلك أيضاً استجابة للدور والوظيفة التي انيطت بها في تربية الأطفال وتهيئة الأجواء الأسرية الناعمة والدافئة للزوج والأولاد. إذن فما خص الله به الرجل من قوة في البدن وشدة في العزم ليس هو من قبيل الرفعة والتفضيل له على المرأة وليس ما فضلت به المرأة من رقة في الإحساس وقوة في العاطفة هو من باب التضعيف لها والتقليل لشأنها بل انّ كلا الأمرين ضروري ومطلوب فكما انّ قوة الحديد ضرورية ومطلوبة فكذلك رقة الورد وجماله أيضاً ضرورة لا يستغنى عنها فلكل شأنه واستفادته. وإلى هذا الأمر أشار القرآن الكريم بقوله سبحانه: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (النساء/ 34)، أي فضل الله الرجال ببعض الخصائص والصفات وبما فضل الله النساء ببعض الخصائص والمزايا.
ثالثاً: المرأة سكن للرجل ورمز للإنس والمحبة، والآية صريحة في التعبير عن غاية الزواج ووجود الزوج إلى جانب زوجه، وهو إيجاد السكن والراحة النفسية والاطمئنان القلبي الذي لا يمكن تأمينه باقتناء كل وسائل السعادة المادية الأخرى.
سكن لكم ومحلاً لإنسكم، فالمرأة كما جاء في تفسير هذه الآية السكن الذي يجد عنده الرجل هدوءه واطمئنانه الروحي وموئل الحب الذي ينتهل منه عطفه وحبه، أو انّ كل منهما سكن للآخر، فما عند المرأة لا يسكن إلا بالرجل، وما عند الرجل لا يسكن إلا بالمرأة. من هنا كانت المرأة رمز الحب والعاطفة وخاصة في الأسرة، فهي بمعين الرحمة والمودة التي تمتلكها تُظل أجواء الأسرة بدفء الحياة الناعمة وصفائها ونقائها.
والملاحظة المهمة في الآية الكريمة: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم/ 21)، انّ المودة والرحمة التي تُظل العلاقة الزوجية وتضمن حفظها وبقائها واستمرارها وتوازنها، هي ليست من صنع أحد ولا نتيجة مترتبة على موضوع سابق بل هي جعل إلهي وقرار مكين يهبه الله للزوجين ليحفظان به كيانهما الجديد وعشهما السعيد، وثمة سؤال آخر يُطرح وهو انّ القرآن لماذا لم يطرح المحبة بل طرح وذكر المودة؟ فقال وجعل بينكم مودة ورحمة ولم يقل وجعل بينكم محبة ورحمة، وذلك لأنّ معنى المودة أعمق وأشمل وأكثر نفوذاً وهي تحمل معنى فوق المعنى الذي تحمله المحبة، فقد تكون المحبة شعور حاصل في القلب بينما المودة هي الترجمة العملية والإطار الظاهري الذي يحمل أو يعكس معاني المحبة والود، فقد جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي في تفسير هذه الآية قوله رحمه الله: انّ نسبة المحبة إلى المودة، كنسبة الخشوع إلى الخضوع فكما انّ الخشوع هو المعنى العملي الظاهر أو الأثر التجسيدي للخضوع، فكذلك المودة هي الأثر العملي للمحبة.
واما معنى الرحمة فهي الشفقة والرأفة التي تلم بالقلب عند رؤية محتاج أو فقير وتدفع صاحبها لبذل ما في وسعه وجهده لرفع نقصه. وعن استعارة هذا المعنى (الرحمة) في وصف العلاقة الزوجية، فإنما جاء لحاجة الزوجين أحدهما إلى الآخر في رفع نقصه وحاجته وما وفره الله في كل من الزوجين من الخصائص والمزايا لتتميم ما عند الآخر. وهذه الرحمة الإلهية التي تستتبع المحبة وتنساب في قلب كل من الزوجين فسوف تكون أفضل ذخيرة لتوطيد دعائم هذه العلاقة الربانية وانتقال هذه الرحمة من قلب الأبوين إلى الأطفال فيكون ذلك سبباً لشفقتها وعطفها عليهم.
- المرأة ينبوع الرحمة:
لما خلق الله سبحانه وتعالى آيته الكبرى في الكون وهو الإنسان، خوله أفضل عنوان وأقدس مسؤولية ألا وهي خلافة الله في الأرض، حيث جعله خليفته وحامل أسمائه: فكرّمه وعلّمه الأسماء وجعله مسجود للملائكة ورسم طريقه المستقيم لبلوغ السعادة والغاية الت لأجلها خلق، فمن سار في هذا المسار الحق واتبع نهج الله وشرفه وحقق في نفسه كل شرائط الخلافة المرجوة لله، كان حقاً خليفة الله والإنسان الكامل المقصود من وراء تحقيق كل هذه الأهداف الإلهية العليا التي لأجلها خلق الله السماء والأرض والبحار والأنوار والأفلاك. فالإنسان بشقيه (الرجل والمرأة) هو التجلي الحقيقي لصفات وأسماء الله، ولما كانت صفات الله وأسمائه تنقسم إلى صفات جلالية وجمالية، أصبح الرجل بشدته وبأسه وقوة تفكيره والتجلي الأعظم لصفات الله الجلالية والمرأة بصفات الرقة والإحساس والرحمة والعاطفية التي تنطوي عليها تكون هي التجلي الواقعي لصفات وأسماء الله الجمالية.
فالمرأة ينبوع الرحمة ورمز الرأفة والعاطفة والإحساس في الأسرة وهي التي تفيض بهذا المورد على جميع أفراد أسرتها وتشيع في جوانب البيت أجواء المودة والدفء والصفاء وتمتص كل ما من شأنه تعكير صفو الحياة ونقائها. وهذا الأمر لا يقتصر في وجوده في الثقافة الإسلامية، والأسر الإسلامية، فحسب بل تكاد المرأة أن تكون عنوان الألفة والود والإنس في جميع الثقافات الأخرى والتيارات الأرضية والحضارات المختلفة، وهذا الأمر لا يقتصر في وجوده في الثقافة الإسلامية، والأسر الإسلامية فحسب بل تكاد المرأة أن تكون عنوان الألفة والود والإنس في جميع الثقافات الأخرى والتيارات الأرضية والحضارات المختلفة، وهذا مالا يختلف فيه اثنان، من هنا جاء الإسلام باعتباره أفضل وأكمل وأتم الرسالات وأكثرها ثقافة وحضارة وقوى هذا الإحساس ورسم الصورة الحقيقية له. واعطى المرأة مكانتها وكرامتها وشخصيتها اللائقة ورفعها إلى مصاف العظمة وحدد لها وما عليها من حقوق وواجبات وجعلها شقيقة الرجل وشريكته في خلافة الأرض واعمار الأرض ومهام الحياة وتقاسم المسؤوليات.
- الجاهلية الجديدة:
ولنا هنا وقفة قصيرة مع أولئك الذين حجموا دور المرأة، ولم ينظروا إليها إلا من جانب محدود وضعيف وقصير، إذ اعتبروها فقط موئل شهواتهم وموضع قضاء نزواتهم، فلا ينظرون إليها إلا من زاوية الجنس ومنظار الحاجة القصيرة العاجلة، وليتهم وقفوا عند هذا الحد بل تفننوا في إخراج المرأة عن وظيفتها الأساسية وتحويل همتها إلى اشباع هذا الجانب وإبراز مفاتنها وجمالها وزينتها لجلب الأنظار إليها وتحويلها إلى لعبة بيد مرضى القلوب وسلعة تباع وتشترى لأجل أغراض دنيئة وأهداف خبيثة. وانها الجاهلية لا تختلف صورتها الثانية عن الأولى التي كانت قبيل مطلع فجر الإسلام وسماها القرآن الكريم الجاهلية الأولى (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) إذ كانت تمخط المرأة حقها، وتهدر كرامتها وتصادر حقوقها وتسلبها حريتها حتى جاء الإسلام وأنقذها من براثن هذه الجاهلية المنحطة ورفعها مقاماً كريماً واعطاها دوراً بارزاً لا يختلف مع أخيها الرجل وأعاد لها شخصيتها الضائعة وهويتها الأصلية وفي تلك الظروف العصيبة والبيئة الخاوية من كل عهود الأخلاق والقيم وجعلها تتسنم درجات العزّ والكرامة والشرف والشهادة وإعداد الأجيال وبناء العظماء ورسم الحضارات وبناء الأُمّة الصالحة الطيبة إلا انّ شياطين الإنس والجن الذين يتربصون بالناس وبالقيم وأهلها الدوائر ويثيرون الفتن ويفرغون حقدهم وعداءهم للدين بشتى الوسائل ومختلف الطرق الدنيئة، لم يروا طريقاً أكثر تأثيراً ونفوذاً لبلوغهم إلى مراميهم وغاياتهم الضعيفة إلا بتحريف المرأة عن طريق الفطرة والدين وإخراجها من موضع عزّها وكرامتها وهي الأسرة والقائها في لظى الأهواء والشهوات وتوجيه تفكيرها وهمتها إلى استراق عقول الرجال وجلب أنظارهم وإثارة شهواتهم بجاهلية جديدة لا تختلف عن القديمة الأولى إلا في قوالبها وشعاراتها ومظاهرها، فهي تلتقي معها في الهدف والعمل والنتيجة.
التعلیقات