حتى تستأنسوا: الأمن والحرية داخل حرم المنزل
موقع ممهدات
منذ 10 سنوات«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» (النور 27- 28)
آداب الزيارة والدخول على الناس:
عن أبي أيوب الأنصاري: قلنا: يا رسول الله، ما الاستئناس؟ قال: "يتكلم الرجل بالتسبيحة والتحميدة والتكبيرة ويتنحنح، يؤذن أهل البيت، والتسليم: أن يقول: السلام عليكم، أأدخل، ثلاث مرات. فإن أذن له وإلا رجع"(1).
بينت هذه الآيات جانبا من أدب المعاشرة، والتعاليم الإسلامية الاجتماعية التي لها علاقة وثيقة بقضايا عامة حول حفظ العفة، أي كيفية الدخول إلى بيوت الناس، وكيفية الاستئذان بالدخول إليها. وقد أعطى الله سبحانه وتعالى أهمية كبرى لهذا الأمر، حيث أوجب تعالى على من دخل بيت غيره أن يستأذن أهل ذلك البيت ويسلم عليهم. ثم الخيار بعد هذا الأدب لصاحب البيت فيأذن له بالدخول إن لم يكن لديه مانع فيدخل، وإلا فإن رأى أن دخوله ليس فيه صلاحا أو كان لديه مانع من ذلك فسكت أو رده بقوله: ارجع فليرجع. وهذا يوجب -كما قيل- استحكام الأخوة والألفة والتعاون العام على إظهار الجميل وستر القبيح، ويبعد عن التطلع إلى عورات الناس.
ومما يؤكد على مدى أهمية الموضوع لدى الشارع ما روي عن النبي(ص) من قوله لسمرة بن جندب: ما أراك يا سمرة إلا مضارا في قصة مشهورة، رويت بطرق عديدة، وهي على حسب رواية الحر العاملي عن الفقيه عن أبي عبيدة الحذاء قال: قال أبو جعفر(ع): كان لسمرة بن جندب نخلة في حائط بني فلان، فكان إذا جاء إلى نخلته ينظر إلى شئ من أهل الرجل يكرهه، قال: فذهب الرجل إلى رسول الله(ص) فشكاه فقال: يا رسول الله، إن سمرة يدخل علي بغير إذني، فلو أرسلت إليه فأمرته أن يستأذن حتى تأخذ أهلي حذرها منه، فأرسل إليه رسول الله(ص) فدعاه: فقال: يا سمرة، ما شأن فلان يشكوك ويقول: يدخل بغير إذني، فترى من أهله ما يكره ذلك؟ يا سمرة، استأذن إذا أنت دخلت. ثم قال رسول الله(ص): يسرك أن يكون لك عذق في الجنة بنخلتك؟ قال: لا، قال: لك ثلاثة، قال: لا، قال: ما أراك يا سمرة إلا مضارا، اذهب يا فلان فاقطعها (فاقلعها) واضرب بها وجهه(2). وفي رواية أخرى: فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيع، فقال (ص): لك بها عذق يمد لك في الجنة... الحديث(3). فمحافظة النبي(ص) على الأعراض مما لا يشوبه شك أو ترديد، وهو واضح من الحديث المذكور، حتى أنه(ص) غضب على سمرة فقال له بعد قلع النخلة: انطلق، فاغرسها حيث شئت(4).
فعندما تعزمون على الدخول لابد، من إخبار أصحاب البيت بذلك ونيل موافقتهم. يجب أن يكون الاستئذان برفق وأدب وصداقة، بعيدا عن أي حدة وسوء خلق، وهو يعني ألا تصرخوا وألا تقرعوا الباب بقوة، وألا تستأذنوا بعبارات حادة، وألا تدخلوا حتى يؤذن لكم، فتسلموا أولا سلاما يستبطن مشاعر السلام والود ورسالة المحبة والصداقة. ومما يلفت النظر في هذا الحكم الذي يتصف بأبعاد إنسانية وعاطفية واضحة، مرافقته لجملتين أولاها: ذلكم خير لكم وثانيها: لعلكم تذكرون. وهذا بحد ذاته دليل على أن لهذه الأحكام جذورا في أعماق العواطف والعقول الإنسانية، ولو دقق الإنسان النظر فيها لتذكر أن فيها الخير والصلاح. وتم هذا الحكم بجملة أخرى في الآية التالية: فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم. قد يكون المراد من هذه العبارة أنه ربما كان في المنزل أحد، ولكن من لديه حق إعطاء الإذن بالدخول غير موجود، ففي هذه الحالة لا يحق للمرء الدخول إلى المنزل. أو قد لا يوجد أحد في المنزل، ولكن صاحب المنزل على مقربة من ذلك المكان، أو في منزل الجيران بحيث لو طرق المرء الباب أو نادى صاحبه فقد يسمعه، ثم يحضر ليسمح له بالدخول، وعلى أي حال، فالمسألة المطروحة أن لا ندخل منزلا دون إذن. ثم تضيف الآية وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم إشارة إلى أنه لا لزوم لانزعاج المرء إن لم يؤذن له بالدخول، فلعل صاحب المنزل في وضع غير مريح، أو أن منزله لم يهيأ لاستقبال الضيوف! وبما أن بعض الناس قد يدفعهم حب الاطلاع والفضول حين رفضهم استقباله على استراق السمع، أو التجنس من ثقب الباب لكشف خفايا أهل المنزل وليطلع على أسرارهم، لهذا قالت الآية: والله بما تعملون عليم. وبما أن لكل حكم استثناء، لرفع المشكلات والضرورات بشكل معقول عن طريقه، تقول آخر آية موضع البحث: ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم. وتضيف في الختام والله يعلم ما تبدون وما تكتمون. ولعل ذلك إشارة إلى استغلال البعض هذه الاستثناءات، فيتذرع بأن المنزل غير مسكون فيدخله بهدف الكشف عن بعض الأسرار، أو الدخول إلى منازل مسكونة متذرعا بعدم علمه بأنها مسكونة، إلا أن الله يعلم بكل هذه الأعمال، ويعلم الذين يسيئون الاستفادة من هذا الاستثناء.
الأمن والحرية في حريم المنزل:
لا ريب في أن لوجود الإنسان بعدين: بعد فردي، وآخر اجتماعي، ولهذا فله نوعان من الحياة: حياة خاصة، وأخرى عامة. ولكل واحدة خصائصها وآدابها، حيث يضطر الإنسان في البيئة الاجتماعية إلى تحمل قيود كثيرة من حيث اللباس والحركة، ومواصلة الإنسان حياته على هذا النسق وحده -خلال الأربع والعشرين ساعة- متعب ويبعث على الضجر، إذ أنه يرغب في أن يكون حرا خلال فترة من الليل والنهار ليستريح بعيدا عن هذه القيود، مع أسرته وبين أولاده، لهذا يلجأ إلى منزله الخاص به، وينعزل بذلك عن المجتمع بشكل مؤقت، ليتخلص من قيوده، فيجب أن يكون محيط المنزل آمنا إلى حد كاف. وأما إذا أراد كل عابر الدخول إلى منازل الآخرين، فلا تبقى حرمة لمنازل الناس، ويسلب منها أمنها وحريتها، وبهذا تتحول إلى بيئة عامة كالسوق والشارع. ولهذا السبب كانت بين الناس -على مر العصور- أعراف خاصة في هذا المجال. حتى أن جميع قوانين العالم تمنع الدخول إلى منازل الآخرين دون استئذان وتعاقب عليه، وحتى في حالات الضرورة القصوى ولغرض حفظ الأمن وغايات أخرى أجيز عدد قليل على وفق القانون بالدخول إليها. ونصت الأحكام الإسلامية على تعاليم وآداب خاصة في هذا المجال، لا يشاهد نظيرها إلا نادرا. نقرأ في حديث أن الصحابي الجليل أبا سعيد الخدري استأذن على الرسول(ص) وهو مستقبل الباب فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تستأذن وأنت مستقبل الباب".(5)
وجاء في حديث آخر أن النبي(ص) كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب. من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: السلام عليكم، وذلك لأن الدور لم يكن عليها حينئذ ستور. وجاء في الأحاديث الإسلامية ضرورة استئذان المرء حين دخوله إلى منزل والده أو والدته، وحتى حين الدخول إلى منزل ولده.(6)
وجاء في حديث عن الرسول(ص) جوابا على استفسار رجل: قال: أستأذن على أمي؟ أجاب(ص): نعم. قال: إنها ليس لها خادم خادم غيري أفأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال(ص): أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل لا، فقال(ص): فاستأذن عليها(7).
وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر(ع) عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: "خرج رسول الله(ص) يريد فاطمة(ع) وأنا معه فلما انتهينا إلى الباب وضع يده فدفعه ثم قال: السلام عليكم، فقالت: فاطمة(ع): عليك السلام يا رسول الله، قال: أدخل؟ قالت: ادخل يا رسول الله، قال(ص): أدخل ومن معي؟ قالت: يا رسول الله ليس علي قناع، فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنعي به رأسك ففعلت، ثم قال: السلام عليكم، فقالت: وعليك السلام يا رسول الله، قال أدخل قالت: نعم يا رسول الله، قال أنا ومن معي؟ قالت: ومن معك، قال جابر: فدخل رسول الله(ص) فدخلت... "(8) وهذا الحديث يبين لنا كيف كان النبي (ص) وهو القدوة للمسلمين كافة، يراعي هذه الأمور بدقة، وحتى جاء في حديث. عن أبي عبد الله الصادق(ع) قال: "الاستيذان ثلاثة: أولهن يسمعون، والثانية يحذرون، والثالثة إن شاؤوا أذنوا وإن شاؤوا لم يفعلوا فيرجع المستأذن".(9)
ويرى بعض المفسرين ضرورة وجود فواصل زمنية بين كل استئذان وآخر، إذ قد يكون صاحب المنزل لم يتهيأ -بعد- بلباس مناسب، أو يريد تغيير هيئة أو إعداد منزله، فيجب إعطاءه فرصة ليعد نفسه ومنزله لاستقبال ضيفه، وعلى الضيف الانصراف دون انزعاج أو توتر إن لم يسمح له بالدخول.
الهوامش:
1- أخرجه ابن ماجة في السنن: ج 2 ص 1221 ح 3707.
2- وسائل الشيعة: ج 17 ص 340 و 341 ب 12 من أبواب إحياء الموات ح 1 و 3.
3- وسائل الشيعة: ج 17 ص 340 و 341 ب 12 من أبواب إحياء الموات ح 1 و 3.
4- ونقل في شرح النهج لابن أبي الحديد : ج 4 ص 73 عن شيخه أبي جعفر: أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي: أن هذه الآيات نزلت في علي بن أبي طالب * (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى . . . الخ) * [البقرة : 204 و 205] وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم، وهي قوله تعالى * (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) * [البقرة : 207] فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له أربعمائة ألف درهم فقبل.
5- فسير فخر الرازي، المجلد 23، ص198.
6- المصدر السابق.
7- تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، الصفحة 586.
8- نور الثقلين، المجلد الثالث، صفحة 587.
9- وسائل الشيعة المجلد الرابع عشر، صفحة 161، أبواب مقدمات النكاح، الباب 23
التعلیقات