خطبة عقيلة زينب في مجلس يزيد
علي بن الحسين الهاشمي الخطيب
منذ 9 سنوات
لما اُدخل علي بن الحسين (عليه السّلام) وحرمه على يزيد (لعنه الله) ، وجيء برأس الحسين (عليه السّلام) ووُضع بين يديه في طشت ، وجعل يضرب ثناياه بمخصرة كانت في يده ، وهو يتمثّل بأبيات ابن الزبعري المشرك :
يا غرابَ البين ما شئت فقلْ
إنّما تذكر شيئاً قد فُعلْ
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا
جزعَ الخزرج من وقع الأسلْ
حين حكّت بقباء بركَها
واستحرَّ القتلُ في عبد الأشلْ
لأهلّوا واستهلوا فرحاً
ثمّ قالوا يا يزيدَ لا تُشلْ
لعبت هاشمُ بالملك فلا
خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ
لستُ من خندف إن لم أنتقمْ
من بني أحمدَ ما كان فعلْ
قد قتلنا الفخر من ساداتهمْ
وعدلنا ميلَ بدرٍ فاعتدلْ
وأخذنا من عليٍّ ثأرنا
وقتلنا الفارس الشهم البطلْ
فقامت زينب بنت علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ، واُمّها فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقالت : الحمد لله ربِّ العالمين ، وصلّى الله على رسوله محمّد وآله أجمعين. صدق الله سبحانه حيث يقول : (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون).
أظننت يا يزيد ، حيث أخذت علينا أقطار الأرض ، وآفاق السماء ، فأصبحنا نُساق كما تُساق الإماء ، أنّ بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة ، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده ، فشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ، تضرب أصدريك فرحاً ، وتنفض مذوريك مرحاً جذلان مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، والاُمور متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا؟!
فمهلاً مهلاً (٤) ، لا تطش جهلاً ، أنسيت قول الله تعالى : (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) ؟
أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك ، وسوقك بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سبايا ، قد هتكت ستورهنّ ، وأبديت وجوههنّ ، وصحلت أصواتهنّ ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ، والشريف والدني ، ليس معهنّ من رجالهنّ ولي ، ولا من حماتهن حمي؟!
وكيف يُرتجى مراقبة ابن مَن لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟! وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت مَن نظر إلينا بالشَّنف والشنآن ، والإِحن والأضغان؟!
ثمَّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم ، داعيا بأشياخك : ليت أشياخي ببدر شهدوا ، منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنّة تنكثها بمخصرتك ، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرّية محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب؟!
أتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم؟! فلتردن وشيكاً موردهم ، ولتودّن أنك شُللت وبُكمت ، ولم تكن قلت ما قلت ، وفعلت ما فعلت. اللهمَّ خذ لنا بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلُل غضبك بمَن سفك دماءنا ، وقتل حماتنا.
فوالله يا يزيد ، ما فريت إلاّ جلدك ، ولا حززت إلاّ لحمك ، ولتردنّ على رسول الله بما تحمّلت من دماء ذرّيته ، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته ، حيث يجمع الله تعالى شملهم ، ويلمّ شعثهم ، ويأخذ بحقّهم ، (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). وحسبك بالله حاكماً ، وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله) خصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً ، وسيعلم مَن سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) ،وأيّكم شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً.
يزيد ، ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك، إني لاستصغر قدرك ، واستعظم تقريعك ، واستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرى. ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل ، وتعفرها اُمّهات الفراعل.
ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد إلاّ ما قدمت يداك ، (وما ربّك بظلاّمٍ للعبيدِ) ، وإلى الله المشتكى ، وعليه المعوّل. فكد كيدك ، واسعَ سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها ، وهل رأيك إلاّ فند ، وأيامك إلاّ عدد ، وجمعك إلاّ بدد ، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين.
فالحمد لله ربِّ العالمين الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة ، إنه رحيم ودود ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فقال يزيد في جوابها :
يا صيحةً تُحمد من صوائحِ ما أهون النوح على النوائحِ جوابها ليزيد في مجلسه لما أدخلوا سبايا أهل البيت على يزيد (لعنه الله) ، دعا بنساء أهل البيت والصبايا فاُجلسوا بين يديه ، في مجلسه المشؤوم ، فنظر شامي إلى فاطمة بنت الحسين (عليه السّلام) ، فقام إلى يزيد وقال : يا أمير ، هب لي هذه الجارية لتكون خادمة عندي.
قالت فاطمة بنت الحسين (عليهما السّلام) : فارتعدت فرائصي ، وظننت أن ذلك جائز لهم ، فأخذت بثياب عمتي زينب (عليها السّلام) وقلت لها : عمّة ، اُوتمت على صغر سني واُستخدم لأهل الشام!
فقالت عمتي للشامي : ما جعل الله ذلك لك ولا لأميرك.
فغضب يزيد وقال : إنّ ذلك لي ، ولو شئت أن أفعل لفعلت.
فقالت زينب (عليها السّلام) : كلاّ والله ، ما جعل الله ذلك لك إلاّ أن تخرج عن ملّتنا وتدين بغير ديننا. فاستطار يزيد غضباً وقال : إيّاي تستقبليني بهذا الكلام! إنّما خرج عن الدين أبوك وأخوك.
فقالت زينب (عليها السّلام) : بدين الله ودين جدّي وأبي اهتديت أنت وأبوك إن كنت مسلماً. قال : كذبت يا عدوة الله. قالت : يزيد ، أنت أمير ، تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك.
فكأنه استحى وسكت ، فأعاد الشامي كلامه : هب لي هذه الجارية. فقال له يزيد : اسكت! وهب الله لك حتفاً قاضياً.
التعلیقات