أمي سممت حياتنا!
مجلة الزهراء سلام الله عليها
منذ 8 سنواتوراء الباب و"الدريشة" يحدث ليس فقط ما لا نرى ، وإنما أيضا مالا نتصور أو نتخيل او نظن.. لا تغمضوا العيون.. لا تدفنوا الرؤوس، فما يحدث في الواجهة ليس حقيقتنا وليس حقيقة مجتمعنا.. ببساطة: ما يحدث خلف هذه الأبواب هو الحقيقة .
ـ ليس كل النساء ضحايا الرجل.. هناك رجال كثيرون ضحايا لامرأة، أعمتها أنانيتها عن كل شيء .
صادمة جاءت كلماتها.. فتاة السادسة عشرة، التي تحمل كلماتها نضوجا مبكرا.. هذا النضوج الذي خلقته قسوة التجربة ومرارتها
.
قالت: أنا أكبر شقيقاتي.. لدي شقيقتان في الثالثة عشرة، والعاشرة من عمريهما.. وشقيق في الثامنة من عمره، أمي لا نكاد نراها، فهي لاهية مع صديقاتها، وتجمعاتهن التي لا تنتهي في المقاهي والمطاعم كل يوم.
أبي كان كل شيء في حياتنا، يتابع دروسنا، يخرج بنا إلى الأسواق، لشراء حاجياتنا ويذهب بنا إلى أسرّتنا للنوم كل ليلة... بينما أمي فهي اما مدعوة لدى إحدى صديقاتها، أو هي في غرفتها بحجة أنها مرهقة.. غائبة حتى وهي معنا.. دائما ضجرة.. متأففة. تضيق من تحمل مسؤوليتنا أو أي شيء يتعلق بنا.
وبسبب حب أبي الشديد لها، لم يكن يرغب في أني يثير حزوها أو غضبها، فيتقبل برضى القيام بدورها.. كبرت في ذلك الجو الغريب.. أمي القوية المسيطرة التي لا تتحمل مسؤولية أي شيء داخل البيت، وأبي الحنون الضعيف أمام أمي، يتفانى في تلبية كل رغباتها، حتى غير المعقولة منها.
وقد كرهت أنا ذلك الوضع، كرهت إهمال أمي وابتعادها عنا.. كنت أشعر بالغيرة من زميلاتي في المدرسة، حين يتحدثن عن أمهاتهن، بينما أمي هي الحاضرة الغائبة في حياتي، والتي لا أشعر أبدا بوجودها، والتي تمر أيام دون أن أراها.. أعود فتكون هي مدعوة على الغداء، تعود لتندس في غرفتها بعيدا عن الضجة، التي قد يثيرها أبناؤها فيتعكر مزاجها.
بدأت أشعر بتناقض في مشاعري تجاه أمي، فتتملكني مشاعر غريبة، فهي كره يغلفه حب، ونفور تغلفه عاطفة غريبة، لا أعرف لها سببا.
كانت تحبّ الحياة بكل مباهجها.. تسافر مع صديقاتها أو جماعة من قريباتها.. تصرف بلا حساب على ثيابها وإكسسواراتها، وحين يعترض أبي على المبالغ التي تصرفها بكلمات رقيقة هادئة، كانت تثور وتغضب وتصفه بالبخل، وإنه لا يشعر بها.
كنت أتمنى أن ينطق أبي بكلمة واحدة، تضع حدا لغرورها واندفاعها، ولكنه يحتوي غضبها بكلمة حلوة وبمزيد من النقود ليشتري ابتسامتها..
أمي كانت امرأة جميلة.. ولكن غرورها كان يطغى على جمالها، ويخلق منها امرأة جافة خاوية من أي مشاعر، حتى سمعت صراخها، يتدافع من غرفتهما ذات ليلة، اندفعت من غرفتي واقتربت من غرفتها، لتصلني توسلات أبي المبللة بدموعه..
"راجعي نفسج"
"حرام تهدمين هذا البيت"
"اشقصرت أنا فيه؟! قوليلي"
ولكن أمي لم تكن تلين أمام كلماته، بل كانت تزداد قوة وتحديا واندفاعا مرددة: "طلقني واحفظ كرامتك"..
"إشلون تقبل إنك تعيش مع وحدة رافضة أن تعيش معاك؟!"
وكما اعتاد أبي الانحناء دائما أمام رغباتها طلقها بهدوء، لتحمل هي أشياءها وتخرج إلى بيت جدتي أمام ذهول الجميع، وما هي إلا أشهر حتى عرفت سر إصرار أمي على الطلاق.. لقد كان طبيب أسنانها الذي أحبته ودفعته لأن يترك زوجته وصغاره ليتزوجها، بعد أن قطعت هي آخر خيط يربطها فينا.
شعرت بعاصفة من الحزن تجتاحني، حين سمعت عماتي يتحدثن مع أبي عنها، وعن فضيحة زواجها هذه، بينما كان أبي يهز رأسه باستسلام شديد.. ولسوء حظي كانت ابنة زوج أمي في المدرسة نفسها، التي أدرس فيها، فما كان منها إلا أن جاءتني هي وجماعة من صديقاتها أثناء الفرصة المدرسية، لتقذفني بأبشع الألفاظ، ووصفتني أنا وأمي بخاطفات الرجال!
ولم أملك ما أرد به عليها.. كنت أتمنى أن أقول لها: إن أمي قبل أن تسمم حياتكم، كانت قد سممت حياتنا منذ زمن بعيد..
وما هي إلا أشهر، حتى تطلقت من زوجها! فما كان هناك رجل يمكنه أن يتحمل أنانيتها وغرورها.. أبي وحده الذي كان يرضخ لأهوائها ورغباتها.. ولأنها تعودت أن تعيش حياتها الصاخبة من الخروج والسفر، وإنفاق الأموال بلا حساب، لم تستطع أن تعيش وفق قوانين زوجها الجديدة، الذي كان يطالبها بحقوقه عليها، وبواجباتها تجاهه، تلك الأمور التي لم تكن تطيقها، فما كان منها إلا أن فرت من حياته..
تفاجأنا بزيارتها لنا ذات مساء، قالت: إنها اشتاقت إلينا.. وقد افتقدت إلى حياتها معنا.
بدت كامرأة أخرى.. رزينة، وعاقلة، كلماتها مغلفة بمشاعر الندم.. كنت أنظر إليها مذهولة، من الصورة التي بدت عليها، والدموع التي غسلت وجهها..
أما أبي فلم يكن هناك حد لسعادته، نسي كل شيء .. كلماتها المهينة له.. زواجها من طبيبها.. غفر لها كل شيء .. وتزوجها.. بعقد ومهر جديدين.. وجاء بها لتعيش بيننها من جديد..
مضت أيام وأسابيع، لتتبخر كل مشاعر الندم، التي كانت بادية على أمي، لتعود هي من جديد لحياتها اللاهية.. الصديقات.. والسفرات.. ليعود أبي يمارس دورها الذي يفترض منها القيام به.
تعود هي إلى دلالها.. ويعود أبي لكسب ابتسامتها، دون أن تغير منه هذه التجربة شيئاً، دون أن تغير منه هذه التجربة شيئاً، وكأنه يخاف أن تفر من حياته مرة أخرى.
وأنا أتمنى أن تكون لي أم كغيري من البنات، تسمع شكواي.. تغمرني بخيمة حنانها.. ولكن كان ذلك آخر شيء يمكن أن أتوقعة.. فقد أعمتها أنانيتها عن كل شيء، لتظل الغائبة الحاضرة في حياتنا..
التعلیقات