ثقافة الشباب
موقع فاطمة
منذ 8 سنواتما هي الثقافة، ومَن هو المثقّف؟
نستعمل كلمة (الثقافة)، ونقول: هذا شخص مثقّف، وهذه ثقافة إسلامية.. فما الّذي نعني بالثقافة وبالمثقّف..
إنّنا نقصد بالثقافة، مجموعة
المعارف الانسانية التي يكتسبها الإنسان وتؤثِّر في تفكيره وفي فهمه للأشياء، وفي سلوكه وأخلاقه، وعلاقته بالله وبالمجتمع والحياة.. مثل معارف العقيدة والتأريخ والفقه والآداب والقانون والسياسة والأخلاق وعلم النفس وعلم الاقتصاد والاجتماع... إلخ..
والانسان المثقف هو الانسان الّذي يكتسب نصيباً من هذه العلوم والمعارف وغيرها من المعارف الانسانية، وتؤثِّر في سلوكه تأثيراً إيجابياً..
إنّ الانسان بحاجة إلى فهم الحياة الاجتماعية والسياسية ومعرفة التأريخ وأحكام العقيدة والشريعة والقانون والأعراف... إلخ؛ لكي يستطيع أن يتعامل مع المجتمع تعاملاً سليماً، ويرسم خطّة حياته، ومواقفه من الاُمور والحوادث والناس الآخرين بوضوح ونجاح.. وإذاً فالثقافة معرفة وسلوك، أو هي معرفة تهذِّب السلوك الانساني.. والجاهل بالمعارف والعلوم لا يستطيع أن يفهم المواقف والوقائع فهماً صحيحاً..
فمثلاً: نحنُ بحاجة إلى المعرفة لكي نحدِّد مواقفنا من الوضع السياسي القائم في بلادنا، أو النظام الاقتصادي الّذي تسير عليه الدولة، أو المنهاج السياسي الّذي يتبنّاه حزب أو زعيم سياسي مرشّح للسّلطة أو مجلس الاُمّة.. أو مسألة دور المرأة في الحياة الاجتماعية.. أو مسألة حجاب المرأة، أو السّفور.. أو مسألة الحرِّيّات وحقوق الانسان.. أو الموقف من مذهب اسلامي أو فكرة عقائدية..
إنّ فهم هذه المسائل وأمثالها، وتحديد موقفنا منها، يحتاج إلى وعي ومعرفة..
إنّ الانسان المثقّف هو الانسان الّذي يملك تحصيلاً علميّاً يمكِّنه من فهم الأشياء ووعيها، وتحديد الموقف السّليم منها مباشرة، أو عن طريق مُتابعة هذا الموضوع أو ذاك، ودراسته وفهمه إذا واجهه..
وحينما يكون الانسان قليل الثقافة، أو إنساناً غير مُتعلِّم، فلا يستطيع أن يُحدِّد موقفاً سليماً من هذه القضيّة أو تلك اعتماداً على فهمه ووعيه.. بل سيكون انساناً مقلداً أو تابعاً للآخرين.. وفي ذلك خطر على شخصيته وموقفه.. وكثيراً ما يندفع الناس الّذين لا يملكون وعياً ولا ثقافة كافية لتأييد مواقف وقضايا خاطئة.. وبهذا الموقف يكون هذا الانسان إمّعة، وتابعاً من غير وعي، وكثيراً ما يتّخذ مواقف خاطئة، ثمّ يندم بعد أن ينكشف له الموقف..
والمثقّف، هو إنسان حضاري، يعرف معنى الانسانية ويحترمها..
وهو إنسان متوازِن الشخصية، يتعامل مع الأشياء بعقل علمي وموضوعيّة..
والمثقّف، هو مَنْ تؤثِّر المعرفة والثقافة في سلوكه وشخصيته، فتظهر ثقافته في كلامه وحديثه عندما يتحدّث مع الآخرين، وتظهر ثقافته في سلوكه عندما يتعامل معهم، أو يعيش في أوساطهم..
إنّ الثقافة تظهر على شخصيّة الانسان.. تظهر في ألفاظه ولباسه ومظهره ونظام حياته في البيت..
إنّ الانسان المثقّف، هو الانسان المستقيم السلوك، الّذي يختار أفعاله وسلوكه وعباراته التي ينطق بها على أساس الفهم والوعي السّليم..
فمثلاً، المثقّف هو مَنْ يُحدِّد موقفه السياسي من القضايا السياسية نتيجة لمعرفته بالقضايا السياسية، ويُحدِّد علاقته بالناس الآخرين بطريقة اجتماعية مهتدية، بعيدة عن الاساءة، وسوء التعامل..
والانسان المثقّف، هو الّذي تكوِّن له الثقافة شخصيّة محترمة ومتوازِنة، تتّسم بحُسن الخُلق والأدب الرّفيع..
والانسان المثقّف، هو الانسان الّذي تعلّم أُصول التعامل الاجتماعي الناجحة مع اُسرته.
والانسان المثقّف، هو الانسان الّذي يحترم آراء الآخرين، ويتعامل معهم باحترام.
الهويّة الثقافيّة
تختلف الثقافة من عقيدة إلى عقيدة أخرى، ومن شعب إلى شعب آخر، ومن مرحلة زمنيّة إلى مرحلة زمنيّة أخرى..
فالثقافة الأوربية الرأسمالية، تختلف عن الثقافة الماركسية.. وهاتان الثقافتان تختلفان عن الثقافة الاسلامية.. إلخ.
ونقصد بالهويّة الثقافية: نوع الثقافة، فللثقافة الاسلامية، مثلاً، هويّتها الخاصة بها، أي نوعها الخاص، فهي ثقافة تقوم على أساس الايمان بالله تعالى، وبالوحي والنبوّات واليوم الآخر... إلخ..
والثقافة المادية هي ثقافة تقوم على أساس الإلحاد، ونكران وجود الله تعالى والأديان وقيم الأخلاق... إلخ..
فالمثقّف المسلم، هو الشخص الّذي تكوّنت لديه ثقافة ومعرفة على أُسس إسلامية.. وتظهر آثار ثقافته في سلوكه، وكتابته إن كان كاتباً أو مؤلِّفاً، وفي حديثه عندما يلقي محاضرة أو يدير ندوة، أو يتحدّث في اجتماع، أو يدخل في حوار ثقافي..
فالمثقّف المسلم، هو الشخص الّذي تكوّنت لديه معارف اسلامية من القرآن الكريم والسنّة والسيرة النبويّة المطهرّة والتأريخ والفقه والعقيدة والفكر الاسلامي. فصار يفهم المعرفة الانسانية والحياة والمجتمع على أُسس اسلامية، فهو يفهم – مثلاً – الحريّة والسياسة والأخلاق وعلاقات الرّجل بالمرأة والسلوك الاجتماعي... إلخ، على أُسس اسلامية، ويفهم الأُمور، ويفكِّر بطريقة اسلامية، ويقيسها بمقياس الحلال والحرام، والايمان بالله، وتوافقها مع العقل العلمي السّليم..
حماية الهويّة الإسلامية:
ويتحمّل العلماء والمفكِّرون والاُدباء والفنّانون ورجال الصحافة والإعلام الاسلاميون، مسؤولية حفظ الهويّة الاسلامية من خلال ما ينتجونه من كتابات، ونتاجات فكرية وأدبية وفنية.. كما تتحمّل المدارس والجامعات والدولة هذه المسؤولية..
وقد أنتج المفكِّرون والعلماء والاُدباء والفنّانون الاسلاميون نتاجات واسعة من الكتب والصحف والمجلاّت والأعمال الفنية وبرامج الإذاعة والتلفزيون الثقافية... إلخ، من أجل تكوين ثقافة اسلامية..
فكتبوا في العقيدة الاسلامية، وفي الحرِّية، وحقوق الانسان، والمرأة في الاسلام، وفلسفة العبادات، وفي معارف القرآن والحديث النبوي، وفي النظام السياسي والاجتماعي والتربوي والاقتصادي في الاسلام، كما كتبوا في الفقه والسيرة النبوية والأخلاق والقصّة والمسرحيّة والشعر والفنون والآداب والتاريخ الاسلامي... إلخ.
وقاموا بالدِّفاع عن الفكر الاسلامي، وردّ الشّبهات التي يوجِّهها خصوم الاسلام ضدّه، ونُسمِّي المحافظة على الهويّة الاسلامية، بالالتزام الثقافي؛ لذا فالمثقّف المسلم مثقّف مُلتزم.
أُسس في الثقافة الإسلامية
ولكي توفِّر لنفسك أُسساً للثفافة الإسلامية، ينبغي أن تبدأ بدراسة وتحصيل الاُسس الثقافية الإسلامية من خلال مجموعة من الكتب الإسلامية الأساسية، والدروس والبرامج الإسلامية..
ويمكن تلخيص المنهج الّذي يُكوِّن لدى المسلم الناشئ أُسساً ثقافية إسلامية، بالآتي:
1- إنّ الأساس الّذي تُبنى عليه الثقافة الإسلامية، هو العقيدة الاسلامية؛ وهناك كتب كثيرة توضِّح العقيدة الاسلامية..
ولكي توفِّر لنفسك أُسساً ثقافية إسلامية مُلتزمة، فعليك أن تبدأ بدراسة كتب العقيدة الإسلامية، أو تحصل على دروس مسجّلة على الأشرطة الصوتية، أو أشرطة الفيديو، أو تحضر دروساً في العقيدة، إذا كانت هناك دروس مُقامة في هذه المعرفة الاسلامية.
فمَن تتوفّر له معرفة بأُصول العقيدة عن يقين وبرهان علمي، تترسّخ العقيدة في نفسه أوّلاً، ثمّ يستطيع أن يرد الشّبهات المثارة ضدّ العقيدة الإسلامية ثانياً.
وثالثاً يتوفّر له الوضوح الكافي بقضايا العقيدة الإسلامية، كالتوحيد والعدل الإلهي، والقضاء والقدر، والنبوّة والمعجزة والوحي، والغيب والمعاد والجزاء، والإمامة... إلخ. ولكي تكون المعرفة العقيدية معرفة سليمة، يجب على القارئ أن يختار الكتاب العقائدي الخالي من الأفكار الخرافية أو المحرّفة، وأن يتّخذ القرآن الكريم مِقياساً للمفاهيم العقائدية التي يدرسها في هذه الكتب وغيرها..
ويوجِّهنا الإمام جعفر بن محمّد الصادق 7 أحد أئمة أهل البيت:العظماء، يوجِّهنا إلى أن نأخذ معارف العقيدة من القرآن الكريم وبوعي قرآني، جاء هذا التوجيه بقوله:
"لا تجاوزوا ما في القرآن، فتضلّوا بعد البيان".
2-الثقافة الفقهيّة: وعلم الفقه يوفِّر لنا المعرفة بأحكام الشريعة وقوانينها في مجالات الحياة كافّة، قوانين الأُسرة والدولة والمال والأرض والتجارة والعبادات والأطعمة... إلخ، لاسيّما التكاليف الواجب علينا فعلها أو تركها..
ولكي تتوفّر لديك ثقافة فقهيّة، فعليك أن تقتني كتاباً في الفقه الإسلامي، وتدرسه وتتعلّم أحكامه..
وليس معنى الفقه في الدِّين هو معرفة الأحكام الفقهية فحسب، بل ويعني الوعي والفهم للعقيدة والنظم والمفاهيم والأحكام، والقدرة على الإستنباط.
3-ولكي توسِّع ثقافتك الإسلامية، وتتكوّن لديك أُسسٌ ثقافية إسلامية، فعليك أن تقتنِ كتباً ميسّرة، واحداً في أُصول الفقه، وآخر في علوم القرآن، وثالثاً في علوم الحديث..
فإنّ دراسة هذه الكتب يوفِّر لك معرفة أساسية، وإن كانت أوّلية، بأهم أُسس الثقافة الإسلامية الخاصة بالإجتهاد وكيفيّة إستنباط الأحكام الشرعية، وبعلوم القرآن والحديث.
4-ولا تكتمل ثقافتك الإسلامية إلاّ بالإطِّلاع على سيرة الرسول 6،ودراسة حياته وشخصيّته الكريمة، والتعرّف على سيرة عظماء الإسلام، وفي مقدّمتهم أهل بيت النبيّ 6، فهذه الدراسة توفِّر لك أغنى ثقافة إسلامية في الحياة؛ سواء في السلوك الأخلاقي، أو في القوانين ونظام الحياة، أو في فهم الشريعة الإسلامية، كما توفِّر لك أعظم العبر والمواعظ، وتوضِّح لك معنى الإسلام بصورة عمليّة، وهناك كتب كثيرة تتحدّث عن السيرة النبوية، فاقتن واحداً منها، مستوعباً لأحداث السيرة وفصولها.
ويجب أن تحذر من الكتب التي تحوي الدّسّ والخرافات والمعلومات الخاطئة عن سيرة الرسول 6الناصعة النيِّرة وأهل بيته :.
5-الأخلاق: وتشكِّل الأخلاق والثقافة الأخلاقية ركناً من أركان الثقافة الإسلامية، وقد ألّف علماء الإسلام والمفكِّرون الإسلاميون كتباً كثيرة في علم الأخلاق والآداب، ولكي تتوفّر لديك ثقافة أخلاقية، فمن الضروري أن تدرس كتاباً في علم الأخلاق، وتتعرّف على الأخلاق الإسلامية من خلال القرآن الكريم والسنّة النبويّة المطهّرة.
6-التأريخ الإسلامي: التاريخ معلِّم الإنسان، وفيه من المواعظ والتجارب والعبر ما لا يستغني الإنسان عنه، وهو مصدر غنيّ بالثقافة والمعرفة..
والتاريخ يُعرِّفنا على أُمّتنا وعظمتها الحضارية والعلمية وموقعها بين الأُمم، وما قام به آباؤنا وأجدادنا العظام من الفتوحات، وتحرير الشعوب، ومقاومة الظّلم والفساد والإستعمار وسيرة الطّواغيت.. كما يُعرِّفنا حقائق كثيرة عن الناس الّذين سبقونا..
لذا فإن دراسة التأريخ ومعرفته يمنحنا ثقافة واسعة ويكمِّل ثقافتنا، وذلك يتطلّب منك إختيار كتاب في التأريخ وقراءات في التأريخ.
7-اللّغة والأدب: اللّغة العربية هي لغة الإسلام، لغة القرآن والسنّة النبوية المطهّرة. وهي لغة العلوم والمعارف الإسلامية كلّها.. الفقه والعقيدة وأُصول الفقه وعلوم الحديث الشريف والفلسفة والأخلاق... إلخ، ومعرفتها أساس ثقافي مهم..
ويُعتبر علم النحو من أهم علوم اللّغة العربية للشخص المثقّف، وانّ دراسة النحو والصّرف مسألة ضرورية لتحقيق النطق الصحيح وصيانته من الخطأ..
فمَن يجهل النحو، ولا يُميِّز بين ما هو مرفوع أو منصوب أو مجرور أو مجزوم، فيكثر عنده الغلط عند النطق بالجملة العربية، وذلك عيب ونقص ثقافي، تنبغي معالجته. إضافة إلى أنّ الغلط في نطق الكلمة من النحو والصرف، يُغيِّر معنى الكلام في كثير من الأحيان..
إنّ الثقافة اللّغوية هي مقياس لشخصيّة الإنسان الثقافية، وذلك لأنّ النطق والتعبير اللّغوي يدلّ على مستوى الإنسان الثقافي..
فمَن لا يُحسِن التعبير والحديث، أو يُخطِئ في اللّغة، يوحي للآخرين بضعف ثقافته، لذا ينبغي معرفة معاني الألفاظ اللّغوية والقواعد النحوية والصرفية، والإطِّلاع على أساليب التعبير، وتنمية القدرة الأدبية عن طريق القراءة والدراسة والإستماع إلى البرامج والندوات الأدبية، ودراسة كتاب مختصر في علم النحو.
8-الفكر الإسلامي: ومن المعارف الثقافية الأساسية هي معارف الفكر الإسلامي السياسية والإجتماعية والإقتصادية وغيرها..
فلكي توفِّر لنفسك أُسساً ثقافية في هذا المجال، لابدّ من قراءة مجموعة من كتب الثقافة الإسلامية التي كتبها الكتّاب والمفكِّرون الإسلاميون في مجال الإقتصاد الإسلامي، ونظام الحكم والسياسة في الإسلام، والنظام الإجتماعي، ونظام الأُسرة والتربية والحرِّية وحقوق الإنسان في الإسلام، والعلم والحضارة... إلخ.
إنّ قراءة هذه المجموعة من الكتب، ومتابعة البرامج التلفزيونية والإذاعية في الفكر والعلوم والثقافة الإسلامية، توفِّر لك أُسساً ومعلومات ثقافية إسلامية، وتفتح أمامك طريق الثقافة والمعرفة الإسلامية، وتكوِّن لديك أسساً وضوابط ثقافية، تحفظ تفكيرك وثقافتك من الإرتباك والفوضى..
وإذاً عليكَ أن تبدأ بتكوين ثقافتك الإسلامية، أوّلاً، ثمّ تتّجه لدراسة الكتب الثقافية غير الإسلامية ثانياً، لتنطلق من أُسس صحيحة في تكوين ثقافتك الإسلامية.
أمّا الشّاب المسلم الّذي يبدأ بتناول الثقافة غير الإسلامية، وتتكوّن أُس ثقافته بعيداً عن الفهم الإسلامي، يعيش حالة من الفوضى والشّبهات وعدم الوضوح للفكر الإسلامي.. بل وتسبّبت هذه الطريقة بحرف الكثيرين، وبلبلة أفكارهم.
الثقافة والتطوُّر المدنيّ
تتأثّر ثقافة الإنسان وأفكاره بوسائل الحياة المدنيّة التي يستخدمها في الإنتاج وتقديم الخدمات..
كما تتأثّر حياته بالتطوُّر الصناعي والعلمي الكبير الّذي وصلته البشرية من وسائط النقل، وأجهزة نقل المعلومات، كالرّاديو والتلفزيون والكومبيوتر والفيديو والسينما، وآلات الإنتاج الزراعي والطباعة، ووسائط العلاج الطبِّي، والمصانع المختلفة التي تنتج للإنسان ما يحتاجه في حياته اليومية، وطريقة السّكن في المدن في أبنية ضخمة، وأسلوب تنظيم المدن والأسواق... إلخ.
لقد غيّرت هذه الوسائل والمصانع أسلوب الحياة والعلاقات الإجتماعية بين الناس في المجتمع، فأثّرت في تكوين الشخصية وطريقة تفكير الإنسان.. فكان لها تأثير سلبي على الحياة الإجتماعية، كما كان لها تأثير إيجابي في توفير الرّاحة والتقدّم للإنسان..
إنّ التطوُّر الصناعي، وطريقة الحياة الناتجة عنه، أضرّت بالعلاقات الإجتماعية، فعلاقات الجوار والقرابة لم تكن تلك العلاقات المتينة، فقد نجد عائلة تعيش في شقّة أو بيت سنين عديدة، ولم تتكوّن لها علاقة صداقة أو جوار مع جيرانها..
لقد كان الجيران والأقرباء قبل ذلك يتزاورون، ويقضون ساعات طويلة في الحديث، فتتفاعل مشاعرهم، ويتواصل بعضهم مع بعض.. وبعد دخول التلفزيون إلى البيوت، أصبح الناس قليلي الإختلاط والتزاور، فانّهم يقضون ساعات من اليوم أمام التلفزيون. وكان الناس قبل تعقيدات الحياة المادية والعمل المتواصل، يجدون وقتاً كافياً للعلاقات الإجتماعية، وللضيافة وزيارة الأصدقاء والأقرباء، أمّا بعدما طرأ على الحياة من تعقيدات ومشاكل، تضاءلت هذه العلاقات الحسنة، وخسر الإنسان تلك الروح الإجتماعية البنّاءة..
ولكي نتغلّب على هذه الظاهرة السلبية في الحياة المادية، لابدّ من أن نوسِّع علاقاتنا مع الأصدقاء والأهل والأقرباء والجيران، عن طريق تكوين الجمعية الخيرية في المنطقة، وحضور صلاة الجماعة في المسجد، وزيارة الأصدقاء والجيران في الأعياد والمناسبات والعطل، وتبادل الهدايا والرسائل والإتصالات التلفونية، وتخصيص وقت للعلاقات الإجتماعية، فانّها ضرورة حياتيّة..
فإنّ الإنسان المثقّف، هو إنسان إجتماعي، يعرف كيف يعيش مع المجتمع ويتعامل بإيجابية مع الآخرين.
ولأهمية العلاقات الإجتماعية في الحياة، أكّدت المبادئ الإسلامية على توسيع وتعميق تلك الروابط وتنميتها بين الأقرباء والأصدقاء والجيران والناس الذين نعيش معهم في حياتنا اليومية، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الناسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ...﴾ (الحجرات/ 13).
التقليد الثقافي
الناس صنفان في تلقِّيهم للثقافة والمفاهيم الحضارية والمدنية، من الأفكار والسلوك واللِّباس والطّعام والتعامل، وأسلوب العيش، وطريقة العلاقات الإجتماعية..
فصنف يتلقّى عن فهم ووعي وقناعة، ويدري لماذا يؤمن بهذه الفكرة، ولماذا يرفض غيرها.. وهو يدري لماذا يعمل هذا الشيء، ولماذا يتركه.
وصنف آخر مُقلِّد ليس لديه فهم ولا وعي للأشياء، فهو تابع يقتنع بما توصله إليه وسائل الإعلام والدعاية للأفكار والأزياء والمواقف والشخصيات ونوع السلوك... إلخ.
يتلقّى الأشياء من غير وعي، ولا تفهّم، وهذا الإنسان ضعيف الشخصية، لا يملك إرادته، ولا يُقرِّر موقفه.. ومثل هذا الإنسان لا نسمِّيه مثقّفاً، وإن ادّعى أنّه إنسان مثقّف..
إنّ كثيراً من الناس ينظر إلى شاشة التلفزيون، أو ما تنشره المجلّات والصّحف، أو أفلام السينما، أو يشاهد ما يفعله الآخرون، فيتأثّر بهم، كالبيغاء، في أزيائه وطعامه وسلوكه وتبعيّته للأشخاص والأفكار..
إنّ المشكلة التي يواجهها كثير من الناس في عالمنا الإسلامي هو التقليد الثقافي للغرب..
فالبعض يتناول الأفكار الغربية في مجال الأُسرة والحرِّية والجنس والمرأة والأزياء والمجتمع والعادات والتقاليد.. يتناولها ويقتنع بها عن طريق التقليد للإنسان الغربي من غير أن يُناقشها، أو ينظر إلى سيِّئاتها التطبيقية في المجتمع الأوروبي والأمريكي وأمثالها..
ويتلقّى البعض من الناس بعض المفاهيم الخاطئة عن الدِّين، وهي تحمل التخلّف والخرافات والأساطير.. ويظلّ هذا الإنسان يؤمن بذلك الفهم الخاطئ ويُدافع عنه، ولا يعمل على التخلّص منه أو تغييره.
إنّ الإنسان المثقّف يكوِّن قناعته ويختار موقفه من الأشياء والأشخاص والأفكار عن طريق الفهم والوعي والمعرفة الذاتية، وحتى ما يتلقّاه من الآخرين، فإنّه لا يتقبّله إلاّ بعد حصول الثقة بالّذين ينقلون إليه هذه المعلومات، وفهمه الواضح لهم.
أخلاقيّة المثقّف
من الحالات المرضيّة التي تصيب الإنسان، هي الأمراض الأخلاقية، كالغرور والتكبّر والإعجاب بالنّفس والغشّ والإحتيال والأنانية، وسوء التعامل مع الناس... إلخ.
لذا فإنّ من أُولى صفات الإنسان المثقّف، هو التخلّص من الصفات الذميمة، والأمراض الخلقية..
ولعلّ من أبرز ما يُصاب به بعض المثقّفين من أمراض أخلاقية ونفسية، هو الذاتية المفرطة "النرجسية"، والعزلة والتعالي على الآخرين..
فالبعض يشعر أنّه أصبح أكبر من الآخرين، وأنّهم دونه لا يستحقّون إهتمامه؛ لذا يتعامل معهم بجفوة واستعلاء..
إنّ الحالة المرضية هذه تعبِّر عن نقص في ثقافة هذا الإنسان، وإحساس مرضي في تكوينه النفسي الباطني، تحول دون تعامله مع المجتمع، كما تفقده إحترام الآخرين، وتُعرِّضه لغضب الله سبحانه وعقابه..
إنّ المثقّف الذي يفهم معنى الثقافة والمعرفة، يجب أن تشكِّل الثقافة الأخلاقية أهم عناصر ثقافته.. ومَن لم يكتمل الجانب الأخلاقي في شخصيته، فليس هو إنسان مكتمل الثقافة، بل لا نسمِّه إنساناً مثقّفاً بالمعنى الحقيقي؛ ذلك لأن إنسانية الإنسان تتمثّل بأخلاقيّته، وهي دليل معرفته، وتكامل شخصيّته؛ لذلك تجد البيان النبويّ يؤكِّد هذا المبدأ بقوله الكريم:
"إنّما بُعِثتُ لأُتمِّمَ مكارم الأخلاق".
و"أكمل المؤمنين إيماناً، أحسنهم خُلُقاً".
إنّ المثقّف إنسان متواضع يحترم الآخرين، ويعرف قيمة ثقافته، ويتعامل مع الناس على قدر مستوياتهم الفكرية والثقافية، فإذا كان يعرف قدراً من المعرفة الثقافية، فإنّه يجهل أشياء كثيرة، فكما أنّ غيره يجهل بعض ثقافته واختصاصه، فهو أيضاً يجهل بعض ثقافة الآخرين واختصاصهم. وتلك حقيقة يدركها الجميع، وهي مصدر تواضع الإنسان. والقرآن الكريم يثبِّتها فيقول:
﴿.. نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ (يوسف/ 76).
برنامج عمل
لكي تكون مثقّفاً.. يجب أن تكوِّن لنفسك ثقافة..
ولكي تكوِّن لنفسك ثقافة.. يجب أن ترسم لنفسك منهجاً لتحصيل الثقافة..
هناك وسائل عديدة للحصول على الثقافة.. منها الكتاب والمجلّة والصحيفة والإذاعة والتلفزيون والندوات والمحاضرات والأسئلة والأجوبة وشريط الفيديو والشريط الصوتي والإنترنت... إلخ.
عليك أن تستفيد من الوقت للحصول على الثقافة بشكل يوفق بين عملك وواجبك الأساس..
وفيما يلي تعليمات حاول أن تستفيد منها للحصول على الثقافة:
عند النهوض صباحاً، إقرأ شيئاً من القرآن الكريم، وكذا قبل النوم، وحاول أن تحفظ آية كلّ يوم، وأن تستعيد حفظ ما قرأت، وأن تحفظ حديثين نبويّين في كل أسبوع..
حاوِل أن تخصِّص من وقتك ساعة في كل يوم لقراءة الكتب الثقافية.. إقرأ صحيفة يومية، واستمع إلى نشرة إخبارية وتحليل سياسي، وتابع الندوات والبرامج الثقافية في الإذاعة والتلفزيون..
حاول أن تتفق مع عدد من أصدقائك لتكوِّن حلقة دراسة أو ندوة أسبوعية أو نصف شهرية، تجتمعون فيها، وتقرؤون في أحد الكتب الثقافية، ومن ثمّ تقومون بالمناقشة والحوار، وطرح الأسئلة والإجابة عليها..
ساهم في المواسم والدورات الثقافية..
ضع كتاباً فقهيّاً على منضدتك الدراسية، واقرأ مسألة فقهية في كلّ يوم، وافهم معناها..
احمل معك كتاباً أو مجلّة عند السّفر أو التنقّل في السيّارة أو القطار.. واستثمر الوقت حين الإنتظار في المحطّة، أو وأنت راكب في السيّارة أو القطار، واقرأ الكتاب أو المجلّة أو الصحيفة التي معك..
عند إستراحتك بعد الظّهر، تناوَل كتاباً أو مجلّة، واقرأ صفحات منه قبل أن تنام..
اجعل لك دفتراً لتدوين المعلومات العامّة، والتي تحتاج إليها عندما تحصل على هذه المعلومات من الكتاب، أو تستمع إليها من الإذاعة أو التلفزيون، ودوِّن اسم المصدر الّذي حصلتَ على المعلومة منه والصفحة وتأريخ تحصيل المعلومة.
موقفنا من ثقافة الآخرين
يتميّز عالمنا المعاصر بتوفّر وسائل الثقافة والمعرفة، وتراكم الإنتاج الثقافي..
فالكتاب والمجلّة والصحيفة والراديو والتلفزيون والإنترنت والفيديو والفاكس وغيرها من وسائل نقل الثقافة والمعلومات.. إنّ كلّ هذه الوسائل وفّرت للإنسان مادّة ثقافية واسعة، وبسرعة هائلة، يصله بعضها بسرعة الضوء والصوت، ولم يعد هناك من حاجز بين الشعوب والأُمم، يحجز هذا اللّون من الثقافة أو ذاك عن الآخرين، كما كان قبل عشرين عاماً مثلاً.
ووسائل الإعلام المتطوِّرة، المسموعة والمرئيّة والمقروءة، تنقل لنا ألواناً مختلفة من الثقافات والأفكار..
بعضها يُشكِّل ثقافة بنّاءة وصالحة، تُساهم في هداية الإنسان وتوثيق علاقته بالله سبحانه، وإصلاح المجتمع، وتنمية الوعي، وبناء الشخصية، ومكافحة الفساد والجريمة والعادات السيِّئة..
وبعضها يعمل على نشر الإلحاد والإنحطاط الأخلاقي، وإبعاد الإنسان عن الإرتباط بالله سبحانه خالق الوجود، ويُشجِّع على التربية المنحرفة، وفصل شخصيّتنا وثقافتنا عن حضارتنا وعقيدتنا وتأريخنا الإسلامي، أو نشر الخرافة والأساطير باسم الإسلام، فتسيء إلى الثقافة الإسلامية، وتُشوِّه الفكر الإسلامي..
فكثير من الكتب والمقالات والأفكار تطعن بفكرنا الإسلامي، وتحاول هدمه، وإثارة الشبهات في أذهاننا، والتشكيك بعظمة الفكر الإسلامي النيِّر الّذي أخرج البشرية من الظّلمات إلى النّور، أو تعرض الإسلام عرضاً خرافيّاً، أو متخلِّفاً مشوّهاً..
إننا نلتقي بألوان مختلفة من الثقافة، ولا نتقبّلها جميعاً..
إنّ لدينا اُسس ومقاييس ثقافية.. إنّنا نقيس صحّة الثقافة بالعقيدة والأحكام والأخلاق الإسلامية، وبما توصّل إليه العلم والعقل السّليم.. فما وافق هذه المبادئ، فهو ثقافة سليمة نؤمن بها ونتلقّاها، وما خالف هذه المقاييس فنحن نرفضه ولا نتقبّله.
وإذاً فنحن نتعامل مع ثقافة الآخرين وهم غير الإسلامين.. نتعامل مع الثقافة غير الإسلامية تعاملاً إنتقائيّاً، أي نأخذ منها ما هو نافع وسليم ومتوافق مع اُصولنا الإسلامية، ونرفض ما يُخالف عقيدتنا وشريعتنا، ويضرّ بشخصيّة أُمّتنا..
الموقف من أصحاب الرّاي الآخر:
إنّنا نعيش في مجتمع بشري واسع، تكثر فيه الآراء المذهبية والسياسية والفلسفية والثقافية والإجتماعية المختلفة..
والناس الّذين نعيش معهم ينتمون إلى مذاهب إسلامية مختلفة.. وآراء سياسية وثقافية متعدِّدة، وديانات أخرى..
والعلاقة مع هذا التعدّد في العقيدة والرأي، ومع هؤلاء الناس وفيما بينهم ينبغي أن يقوم على أساس التفاهم والحوار، والصّواب يُحدّد من خلال الوسائل العلمية والفكرية..
وعلينا أن نطّلع على آراء الآخرين، ونتعرّف عليها إذا أردنا أن نكوِّن موقفاً منها، ولا يصحّ أن نحدِّد موقفنا من أحد إلاّ بعد الإطِّلاع على رأيه ومناقشته ونقده نقداً علميّاً..
وإنّ من الخطأ أن يتحوّل الخلاف في الرّأي بين أفراد المجتمع الإسلامي إلى عداوة وصراع ومقاطعة، ونحن كمسلمين نؤمن بحرِّية الرأي في الإطار الإسلامي، ونتقبّل النّقد، ونفسح المجال للإجتهاد وتعدّد الآراء.. وأن يكون الحوار العلمي هو الطريق لإثبات الصّواب، ورفض الباطل.
رابط الموضوع
التعلیقات