زينب الكبرى أميرة البيان (٤)
شيخ مهدي المجاهد
منذ 7 سنوات
وبعد ما وصل موكب الحزن والأسى إلى دمشق عاصمة الاُمويِّين، ومركز قيادتهم، وبؤرة الحقد والعداء، ومسكن الأعداء الألدّاء لآل رسول الله صلى الله عليه وآله اتّخذ يزيد التدابير اللازمة لصرف الأفكار والأنظار عن الواقع والحقيقة، محاولاً بذلك
تغطية الاُمور وتمويه الحقائق، فأمر بتزيين البلدة بأنواع الزينة، ثمّ الإعلان في الناس عن وصول قافلة من السبايا والأسارى الذين خرج رجالهم من الدين فقضى عليهم يزيد، وقتلهم وسبى نساءهم؛ ليعتبر الناس بهم، ويعرفوا مصير كلّ من يتمرّد على حكم يزيد ومن الواضح أنّ الدعاية والإعلام لها دورها في تمويه الحقائق، وخاصّة على السذّج والعوام من الناس.
ولكن باءت تلك التدابير بالفشل الذريع، وذلك لحضور حجة الله على خلقه علي بن الحسين السجاد صلوات الله عليه موجود مع العقيلة زينب الكبرى سلام الله عليها أميرة البيان في موكب الأسارى، وأنهما سوف يفضحان الحكومة الأموية في معقل دارها وأساسها، ولم يكن ذلك بالحسبان.
فخطبتها في مجلس يزيد بن معاوية في الشام رواها جماعة من العلماء في مصنفاتهم، وهي من أبلغ الخطب وأفصحها، تكسوها أنوار من الخطب العلوية وأسرار الخطبة الفاطمية عليهم السلام.
روى الشيخ الطبرسي في كتاب «الاحتجاج» هذه الخطبة على ما يلي :
احتجاج زينب بنت علي بن أبي طالب ، حين رأت يزيد لعنه الله يضرب ثنايا الحسين عليه السلام بالمخصرة.
روى الصدوق من مشايخ بني هاشم وغيره: إنه لما دخل علي بن الحسين (عليه السلام) وحرمه على يزيد جيء برأس الحسين (عليه السلام) ووضع بين يديه في طشت، وجعل يضرب ثناياه بمخصرة كانت في يده، وهو يقول:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الاسل
لأهلوا، واستهلوا فرحاً ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم وعدلناه ببدر، فاعتدل
لعبت هاشم بالملك، فلا خبر جاء، ولا وحي نزل
لست من خندف إن لم انتقم من بني أحمد ما كان فعل
فقامت زينب بنت علي بن أبي طالب، وأمها فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقالت:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه، حيث يقول: «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون».(۱)
أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسراء أن بنا هواناً على الله، وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، تضرب أصدريك فرحاً، وتنفض مذوريك مرحاً، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، وفمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: «وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ».(۲)
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنأن، والإحن والأضغان، ثم تقول غير متأثم، ولا مستعظم:
لأهلوا واستهلوا فرحاً ثم قالوا يا يزيد لا تشل
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك، وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأقة، بإراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه وآله ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم، فلتردن وشيكاً موردهم، ولتودن أنك شللت، وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت.
اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا.
فوالله ما فريت إلا جلدك، ولا حززت إلا لحمك، ولتردن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما تحملت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم، يأخذ بحقهم «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».(۳)
وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد صلى الله عليه وآله خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم من سوّل لك، ومكنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلاً وأيكم شر مكاناً، وأضعف جنداً.
ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى.
ألا فالعجب كل العجب، لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفرها أمهات الفراعل ولئن اتخذتنا مغنما، لتجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك، وما ربك بظلام للعبيد، وإلى الله المشتكى وعليه المعول.
فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين.
والحمد لله رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ».(٤)
واعلم: إن بلاغة السيدة زينب عليها السلام وشجاعتها الأدبية ليس من الأمور الخفية، وقد اعترف بها كل من كتب في واقعة كربلاء، ونوه بجلالتها أكثر أرباب التاريخ.
وكيف لا تكون كذلك وهي بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه الذي أدهش العالم بخطبه وصدى تلك الخطب قد ملأت العالم، وأمها فاطمة الزهراء التي خطبت بمسجد رسول الله صلى الله عليه بتلك الخطبة العصماء، وألقت الحجة على الخصم إلى قيام يوم الدين، ففعلت زينب الكبرى أميرة البيان كما فعلا عليهما السلام.
نعم، إنّ من كانت كذلك فحَرِيَّة بأن تكون بهذه الفصاحة والبلاغة، وتمتلك هذه الجسارة الأدبية والشجاعة العلوية، والجرأة على هذا البيان الصائب.
ويزيد الطاغية يوم ذاك هو السلطان الأعظم، والخليفة الظاهري على عامة بلاد الإسلام تجلب له الجزية من شتى الفرق والأمم المتباينة، كما أظهر في مجلسه أبهة الملك، وملاه بهيبة السلطان، وقد جردت على رأسه السيوف، واصطفت حوله الجلاوزة، وكان هو وأتباعه على كراسي الذهب والفضة وتحت أرجلهم فرش من الديباج والحرير.
وزينب الكبرى في الأسر، دامية القلب باكية الطرف، حرى الفؤاد من تلك الذكريات المؤلمة والكوارث القاتلة، قد أحاط بها أعداؤها من كل جهة، ودار عليها حسادها من كل صوب.
ولكنها خرجت من الشام وهي منتصرة قد أكملت المسيرة التي قام لأجلها سيد الشهداء صلوات الله عليه، وهي نقلت للكل ما جرى في أرض كربلاء، وأفضحت بيت الأموي وأعوانه بما قاموا به من جريمة بشعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ سورة الروم، الآية 10.
2ـ سورة آل عمران، الآية 178.
3ـ سورة آل عمران، الآية 169.
4ـ كتاب «الإحتجاج» للطبرسي، ج 2 ص 307 ـ 310 .
التعلیقات