أمنياتك صغيرتي
الدكتورة عامرة البلداوي
منذ 5 سنواتيافعات أعمارهن بين العاشرة والرابعة عشر أسمع أخبارهن من خلال غربال البحث الاجتماعي ومنظار التحليل النفسي، ففكرت يوما وأنا أستمع لقصصهن، وهن وسط بؤس وخوف وحرمان كيف
ينظرن إلى المستقبل؟ ما هي أحلامهن؟ ماذا يتمنين؟ هل تراودهن يا ترى أفكار مجنونة أو شيطانية بالانتحار أو الهرب من المنزل أو إيذاء من يسبب لهن الحرمان أو ضيق العيش.
فكرت أنه من الطبيعي إذا منحت لهن الفرصة للتعبير عن أنفسهن بحرية كاملة أن يبحن بمكنونات صدورهن المغلقة خوفا ...فهل سيكتبن ما يجول في تلك الصدور أم أنهن سيكتفين بذكر أمنية واحدة متوقعة لمثل أعمارهن، وهي النجاح والتفوق وما شاكل ذلك.
طبعت السؤال في الورقة، وأنا أنظر أليها، وهي تستنسخ إلى نسخ كثيرة، وترزم لتوزع على فتيات يعشن في شبه خربة في مناطق عشوائية وسط العاصمة بغداد، كنت في شوق وأنا أنتظر الوجبة الأولى من تلك وأتابع إدخال البيانات، ولم أنتظر تحليل النتائج، بل باشرتها بنفسي أقرأ كل نتيجة متأملة أمنيات الصغيرات، وتسمرت عيناي أمام أمنيتين هي الأكثر تكرارا، بل هي الأشد أيلاما.
الأولى أمنية (اللعب) أحداهن تكتب بأناملها الصغيرة أنها تتمنى أن (ألعب مع صديقاتي)، وأخرى كأنها تهمس بأذني بأنها تتمنى أن (أشتري لعابة كبيرة)، وأخرى أكثر تواضعا، بل أكثر شوقا للعب، فهي لا تريد سوى (لعابة) أي لعابة؛ لتلعب مثل كل الصغيرات والأصغر منها سنا، وواحدة تتمنى اللعب بالكرة، فهي تريد ان تشتري كرة.
تجمدت الدموع في عيني، وأنا أتخيل بأن تلك الطفلة تحلم، وتتمنى أن تحصل على لعبة لا غير.
أما الأمنية الثانية فهي (الملابس) كان لابد أن أفكر بأن الفتيات يعشقن الملابس، ولابد أن تكون تلك إحدى أمنياتهن، ولكن لا أدري لماذا كانت عبارة (أشتري هدوم) من طفلة صغيرة أشعرتني بأنها محرومة من ملابس جديدة، وأنها ربما استلمت ملابس سبق ارتداؤها منذ عرفت الحياة، ولم تستمتع بملبس جديد يحمل اسمها، وإنّ ثمنه دفع خصيصا لأجلها، وأنها هي من سترتديه وحدها ولا تتشارك به مع أخواتها أو بنات عمها حيث تعيش في بيت مكتظ بالأطفال.
إذن يا طفلتي، لقد خيبتي ظني لم تفكري بالانتقام ممن حرمك ارتداء ثوب جديد، ولم تفكري بالهرب من منزل الحرمان للتسول أو السرقة وجمع المال لتشتري لعبة تلعبي بها وتعيشي طفولتك المحرومة، ولم تفكري بالموت والانتحار؛ لأن حياتك منذ الصغر محفوفة بالضيق وشظف العيش والاحتياج لأبسط المستلزمات.
أنت يا صغيرتي، بأمنياتك لقنتني درسا أن لا أتوقع شيئا من خلال النظريات الجاهزة والمكتوبة، وأن لا أسمح لفرويد الذي يفلسف الاحتياج الذي يؤدي إلى الكبت كمبرر للجريمة أو الانحراف، فها أنت تحملين حقيبتك المتهرئة، وتذهبين إلى المدرسة، وتعودين، وتنجحين برغم ما ينقصك من حاجات الطفولة البريئة والذي أعتبر واحدا من أهم حقوقك وهو اللعب، كيف نسميك طفلة إذا لم تمارسي اللعب؟
بأمنياتك صغيرتي، تغيرت أو بدأت أفكر بطريقة أخرى، ماذا لو فاجأتك بلعبة ماذا لو اشتريت لك فستانا جميلا؟ ولكن كيف أفعل هذا وأنا لا أعلم من هي صاحبة الأمنية!!! أذن ماذا لو اشتريت لعبا كثيرة، ووزعتها للجميع؟
بل ماذا لومنحتك فرصة الأختيار فوضعت لعبا كثيرة في مكان وطلبت من كل الصغيرات ان يخترن ما يرغبن من اللعب، وان يلعبن سوية ونجعله يوما للعب
ماذا لو .. ماذا لو .. أمضيت وقتا طويلا وانا أتخيلك تدورين حول نفسك بفستان جميل وانت فرحة مسرورة كطائر جميل
نعم صغيرتي ما اسهل ان نمنحك السعادة، ما أسهل ان نجعل حياتك جميلة وتنعم بالأمان، ولكن لأكن حذرة فالحلول الجاهزة هي الأخرى مصيرها الفشل، فهذه الطفلة لا تجد أجمل من ثوب يقدمه لها أحد الأبوين حتى وأن كان بسيطا ورخيص الثمن
التعلیقات