عقيلة بني هاشم في مجلس الكوفة و الشام
سماحة الشيخ جوادي آملي
منذ 13 سنةدخلت بنت أمير المؤمنين مجلس بن زياد و الجواري حوله بثياب بالية و بسيطة فاتخذت ركن من أركان القصر مجلساً لها. عندها سأل ابن زياد من تكون هذه المرأة؟ فلم يجبه أحد، فأعاد السؤال مرة أخر ى فأجابته إحدى جواري زينب سلام الله عليها قائلة: إنها زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه و آله)، و هنا تكمن الوظيفة الصعبة و المهمة العويصة التي تنتظر زينب سلام الله عليها، فيجب عليها أن تتمالك أعصابها و أن لا تفقد صبرها كي لا تسمح لابن زياد اللعين أن يزيف الحقيقة أمام النّاس. قال ابن زياد: أشكر الله على قتلكم وكشف خدعكم
وكذبكم أمام الملأ. لقد تجرأ ابن زياد بخطاب الكفر هذا النابع من قمة غروره بانتصاره الزائف على بيت النبوة، و إلاّ فأي كذب كان ينطق به بنو هاشم؟ هل كذبوا بأن كانوا يقولون "محمد رسول الله"؟ أم كان غير ذلك؟ و على كل حال فقد أجابته زينب دون أدنى تردد قائلة:"الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطهرنا من الرجس تطهيراً، يفتضح الفاسق و يكذب الفاجر و هو غيرنا و الحمد لله".
فقال ابن زياد مرة أخرى أرأيت ماذا فعل الله بأهلك؟ وكأنه أراد بذلك تذكير زينب بقتلى يوم عاشوراء و إثارتها، ساعياً إلى جعلها سلام الله عليها تجيبه حسب ميله أو تترجاه، غافلاً أنها أذكى منه بكثير فلن تقول كلمة واحدة في غير محلها، وكل ما ستقوله مسطر ومحسوب مُؤَمِّنـة بذلك الهدف المنشود لنهضة عاشوراء المباركة.
قالت زينب في جوابها على ابن زياد اللعين: "كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، و سيجمع الله بينك و بينهم فتحاجون إليه وتخاصمون عنده". عندها ارتسم الغضب الشديد على وجهه و لولا وجود عمرو بن حريث و لومه له لأصدر أمره بقتل زينب سلام الله عليها. لكن ما هي الفائدة يا ترى من هذا الكلام الفاخر الصادر من طاهرة من بيت طاهر بيت النبوّة من زينب عليها السلام الذي فضحت به هذا الفاسق الفاجر، و نزّهت وعرَّفَت به أهل بيت العصمة والطهارة.
بعد شهر أو أكثر مضى على هذا المجلس، تجتمع زينب في مجلس أهم و أصعب موقفاً من الأول موضحة معالم نهضة عاشوراء، مزيحة بذلك الستار أمام أهل الشام الذين كانوا يجهلون مواقف أهل الكوفة و مغَرَّبين عن معرفة أهل بيت العصمة و الطهارة.
كان هذا المجلس في مركز الخلافة الإسلامية دمشق الذي وقفت فيه زينب بثبات وثقة و إصرار عجيب. لقد خطبت سلام الله عليها في هذا المجلس، و قد نقلت خطبتها الشريفة في كتاب بلاغة النساء لأحمد بن أبي طاهر البغدادي الذي قال: عندما وقعت عين يزيد اللعين على أسرى وسبايا أهل البيت (ع)، أصدر أمره بإحضار رأس الإمام الشريف في طشت ثم بدأ يضرب أسنانه الشريفة بعصاه مردداً هذا الشعر:
لعبـت هاشـم بالملـــك***فلا خبر جاء ولا وحي نزل
ليت أشياخي ببـدر شهـدوا***جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلـوا واستهلــوا فرحـا***وقالوا يا يزيد لا تشـــل
فجزيناهـم ببـدر مثلهــا***وأقمنا مثل بدر فاعتــدل
لست من خندق إن لم أنتقـم***من بني أحمد من كان فعـل
فلو كان يزيد لحد الآن يحارب الحسين (ع) هل يتجرأ على المساس بشخص النبي! و يقف في وجهه متجاهراً بعدائه لرسول الله (صلى الله عليه و آله). ثم كيف يكون موقف زينب يا ترى؟ هل تقف ساكتة تاركة العنان ليزيد كي يتجرأ بكلامه المخزي و غير المتصور على خليفة رسول الله، و يبدي أحقاده الدفينة للنبي الأكرم و يساوي بينه و بين مشركين قريش الذين قتلوا في معركة بدر، جاعلة كلامه مورد قبول و اعتقاد أهل الشام؟ لا نظن أنّ زينب تؤثر السكوت في هذا الموقف وكل شيء ستقوله ينبع من تكليفها و وظيفتها الشخصية التي سيحفظها الله لها يوم القيامة- هذه المواقف لم تمح كما محيت العديد من المستندات المذهبية الأُخَر- لأنها لم تكن لتستطيع أي قدرة أن تخمد صوت زينب سلام الله عليها و تحبسه عن أن يسجل آهاته على صفحات التاريخ حاملاً رسالته المحمدية الأصيلة لكل مسلمي العالم.
أم يجب على زينب أن تحرّف الحقيقة و تبدّل كلماتها بكلمات التجليل و التكريم ليزيد، و إظهار العجز و طلب الاعتذار أمامه. لا نهج بلاغة علي (ع) يرضى بهذا التبديل و لا الصحيفة السجادية للإمام الرابع، و لا خطب الإمام الحسين (ع) في طريقه إلى كربلاء أو يوم عاشوراء، ولا خطب الإمام زين العابدين (ع) و زينب الكبرى، و أم كلثوم و فاطمة بنت الحسين (ع) في الكوفة و الشام و المدينة. و ما دامت المكتبات متواجدة في هذه الدنيا ستبقى هذه الكلمات حية خالدة، ممنوعة من التحريف غير قابلة للزيادة أو النقصان.
إن الله سبحانه و تعالى ليس حافظاً للقرآن من التحريف فحسب، بل حافظاً لكل مستند مذهبي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتعاليم القرآن، لذا وجب شكره الجزيل على نعمته التي تفضل بها علينا.
التعلیقات