الإنتظار.. آمال ومسؤوليات
موقع قادتنا
منذ 8 سنواتالمقدمة
بعث الإمامُ العسكري (عليه السلام) إلى عمّته حكيمة قائلاً: يا عمة، اجعلي إفطارك الليلة عندنا، فإنها ليلة النصف من
شعبان، فإن الله تبارك وتعالى يظهر في هذه الليلة حجته على أرضه، قالت: ومن أمه؟ قال: نرجس، قال: والله ما بها أثر، فقال: هو ما أقول لكِ، فانتظرت حتى الفجر متحيّرة، فصاح الحسنُ العسكري (عليه السلام): لا تعجلي يا عمّة، فهناك الأمر قد قرب، فجلست تقرأ سورتي (الم السجدة) و (يس)، وهنا انتبهت نرجسُ فزعة حيث أحست بالولادة، فإذا به المهدي (عليه السلام) يتلقى الأرض بمساجده وهو طاهر، فنادى الإمامُ العسكري: هلمي إلي بابني يا عمة، فجيء به، فأخذ يدلي لسانه في فيه ويمرر يده على عينيه وسمعه ومفاصله، وجاءت حكيمة تتفقد الوليد فلم تجده، فلما سألت عنه قال لها العسكري (عليه السلام): يا عمة، استودعناه الذي استودعت أم موسى. حظي الإمامُ المهدي (عليه السلام) بتشريف الجلال الرباني، حيث نزلت آياتٌ كثيرة نذكر بعضها:
1. (فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا) [البقرة: 148].
قال ابن عباس: أصحاب القائم (عليه السلام) يجمعهم الله في يوم واحد.
2. (وإن من أهل الكتاب ألا ليؤمن به قبل موته) [النساء: 159].
عن الباقر (عليه السلام): إن عيسى (عليه السلام) ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى أهل ملة يهودي ولا غيره إلا آمنوا به قبل موته، ويصلي عيسى خلف المهدي (عليه السلام) .
3. (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) [التوبة: 33].
عن ابن عباس: لا يكون ذلك حتى لا يكون صاحب ملة إلا دخل في الإسلام، وذلك عند قيام القائم.
4. (ولئن أخّرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) [هود: 8].
قال أميرُ المؤمنين (عليه السلام): الأمة المعدودة أصحابُ القائم الثلاثمائة والبضعة عشر.
5. (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) [الأنبياء: 105].
عن الباقر والصادق (عليهما السلام): هم القائم وأصحابه.
6. (اللذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) [الحج: 41].
عن الإمام الباقر (عليه السلام): المهدي (عليه السلام) وأصحابه يملّكهم اللهُ مشارقَ الأرض ومغاربها، ويظهر الدين ويميت الله به وبأصحابه البدع والباطل، كما أمات السفهاءَ الحقُ، حتى لا يرى أثر من الظلم، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وقال زيد بن علي: إذا قام القائم من آل محمّد يقول: أيها الناس، نحن الذين وعدكم الله في كتابه (اللذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة..).
7. (ونريد أن نمنّ على اللذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) [القصص: 5].
قال أميرُ المؤمنين (عليه السلام): هم آل محمد، يبعث الله مهديهم بعد جهدهم، فيعزّهم ويذل عدوهم.
8. (وعد الله الذين امنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم امنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا) [النور: 55].
قال الشيخ سلمان البلخي القندوزي ـ وهو من أجلة علماء السنة ـ بعد ذكر هذه الآية: عن إسحاق بن عبد الله، عن الإمام زين العابدين قال: هذه الآية نزلت في القائم المهدي (عليه السلام) .
أما في الحديث الشريف فقد كان المهدي (أرواحنا له الفداء) موعودُ نبي الرحمة (صلى الله عليه وآله)، فعن ابن عباس قال: قدم يهودي فقال: يا محمد، أسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين، فإن أجبتني عنها أسلمتُ على يديك، فسأل حتى قال: أخبرني عن وصيك، من هو؟ فما من نبي إلا وله وصي، وإن نبينا موسى بن عمران وصيه يوشع بن نون، فقال (صلى الله عليه وآله): إن وصيّي عليُ بن أبي طالب، وبعده سبطاي الحسن والحسين، تتلوه تسعة أئمة من صلب الحسين، قال: يا محمد، فسمهم لي، قال: فإذا مضى الحسين فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمد، فإذا مضى محمد فابنه جعفر، فإذا ذهب جعفر فابنه موسى، فإذا ذهب موسى فابنه علي، فإذا ذهب علي فابنه الحسن، فإذا مضى الحسن فابنه الحجة المهدي.
كما عددهم النبي (صلى الله عليه وآله) وختمهم لجابر الجعفي حين سأله عن أولوا الأمر بعد نزول الآية (وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم)، وختمهم بالمهدي (عليه السلام) ووصفه، وذكر الشيخ المفيد في الإرشاد قول النبي (صلى الله عليه وآله): لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله رجلاً من أهل بيتي، يواطيء اسمه اسمي، يملؤها قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجورا، وعن أم سلمة (رضي الله عنها): قال النبي (صلى الله عليه وآله): المهديّ حق، وهو من ولد فاطمة.
واجه الإمام العسكري (عليه السلام) بعد ولادة المهدي مهمتين:
الأولى: تثبيت شخصية المهدي على صفحة التاريخ، مع الحذر من السلطة التي تبغي قتله.
الثانية: حماية المهدي (عليه السلام) من السلطة العباسية التي بثت جواسيسها للبحث عنه وقتله حيثما وُجد، لذا ألزم كلَّ من يطلع على ولادة ابنه المهدي (عليه السلام) بوجوب الكتمان، واكتفى قبيل وفاته بأن أخبر خاصته بأمر ولده لما أخرجه لهم قائلا: هو إمامكم من بعدي وخليقتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم، ألا وإنكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتى يتم له عمر، فاقبلوا من عثمان ـ وهو عثمان بن سعيد السمان ـ ما يقول، وانتهوا إلى أمره واقبلوا قوله، فهو خليفة إمامكم والأمر إليه.
عاش الإمام المهدي (عليه السلام) أجواء المطاردة والملاحقة، وفي هذه الظروف العصيبة يغيب المهدي (عليه السلام) غيبته الصغرى من عام 260ـ329 هـ، ولكنه لم يختف تماماً، فقد كان يقود الأمة بطريقة جديدة تفرضها طبيعة المرحلة الجديدة، وكان يتّصل بخواصه ويدلي إليهم بتوصياته إلى الناس ويجيب على مسائل السائلين عن طريق وكلائه وسفرائه المعتمدين اللذين يملكون القابلية على تحمل التعذيب إذ أسقطوا في يد السلطة، وقد وُفقوا في أداء مهماتهم بشكل دقيق، وجمعوا الأموال ووزعوها حسب وصايا الإمام المهدي (عليه السلام)، فقامت السفارة بتنفيذ مهمتين:
الأولى: رعاية شؤون قواعد الأمة بعد اختفاء الإمام.
الثانية: تهيأة الأذهان للغيبة الكبرى.
وقد كان هذا الأمر معداً من قبل الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) عندما احتجبا مدة، موكلين خواصّهما بتبليغ التعليمات عن طريق المكاتبة والتوقيع، وهذا تمهيد لإسلوب الإمام المهدي (عليه السلام)، ولعل أهم الدوافع لإسلوب السفارة كما يقول الأستاذ عادل الأديب هي:
1. تجنب السلطة التي اضطهدت الكثير من طلائع العلويين.
2. الاضطراب الذي عاشته القواعد الشعبية.
وكان السفراء في مركز نيابة الإمام، وهم أربعة، أجمعت الأمة على تقواهم ونزاهتهم:
1. عثمان بن سعيد العمري.
2. محمد بن عثمان العمري.
3. حسين بن روح.
4. أبو الحسن علي بن محمد السمري.
كان النائب يحمل أسئلة الشيعة إلى الإمام ويعرض مشاكلهم عليه، ويحمل أجوبته إليهم، وقد وجدت الجماهير التي فقدت رؤية إمامها العزاء والسلوة في هذه الاتصالات المباشرة.
وعن طريق تجسّس السلطة ثبتت فكرة السفارة، فجدّد الخليفة المعتضد حملاته لإلقاء القبض على الإمام واضعاً مخططا لكبس داره، ولكن الله خيب سعيه وأنقذ الإمام من مكائده.
رُبّ سؤالٍ: لم غاب الإمام عن الأنظار؟
بعضهم يحتمل السبب أمرين:
الأول: الخوف من الأعداء، والاستتار جاء حقنا لدم الإمام (عليه السلام) وحفظاً لمبدئه الشريف.
الثاني: الغيبة كانت لامتحان الناس، كما امتحن الله الأمم في غيبة موسى (عليه السلام) فاتبع قومُه السامري وعبدوا العجل، وغيبة عيسى والخضر وإلياس (عليهم السلام).
بل إن غيبة المهدي (عليه السلام) هي من أعظم الامتحانات لأمة المصطفى (صلى الله عليه وآله)، والذي شكا المكذبين قائلا: إلى الله أشكو المكذبين في أمره، والجاحدين لقولي في شانه، والمضلين لأمتي عن طريقه.
فالغيبة فتنة واختبار، قال النبي (صلى الله عليه وآله): لابد من فتنة تبتلى بها الأمة بعد نبيها، ليتعين الصادق من الكاذب.
ولقد امتحن الله المسلمين بالهجرة والحرب والنصر والخسارة تمحيصاً في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)، امتحنهم بعده بالأئمة الأطهار (عليهم السلام) وهم يعيشون ظروف القتل والاضطهاد، كما امتحنهم أيضاً بخلفاء الظلم والجور من بني أمية وبني العباس، ثم ابتليت بغياب القائد بعد استشهاد الإمام العسكري (عليه السلام)، فإن رسالة المهدي (عليه السلام) التي ادخر لها من قبل الله سبحانه وتعالى هي تغيير العالم تغييراً شاملا، وإخراج البشرية من ظلمات الجور إلى نور العدل، وعملية التغيير الكبرى هذه لا يكفي في ممارستها مجرد وصول الرسالة والقائد الصالح، وإلا لتمت شروطها في عصر النبوة بالذات، وإنما تتطلب مناخا عالمياً مناسباً وجواً عاماً مساعداً يحقق الظروف الموضوعية المطلوبة لعملية التغيير العالمية، فشعور إنسان الحضارة بالنفاد عامل أساسي في خلق ذلك المناخ المناسب لتقبل رسالة العدل.
وشروط الحياة المادية اقدر على انجاز الرسالة من شروط الحياة القديمة كعصر الغيبة الصغرى، وذلك بما تحققه من تقريب المسافات والتفاعل بين الشعوب وتوفير الجهاز المركزي لممارسة توعية شعوب العالم على أساس الرسالة الجديدة.
غاب الإمامُ المهدي (عليه السلام) عن الأنظار ولم يغب عن القلوب والضمائر، فقد قال الصادق (عليه السلام): إنه يغيب عن أبصار الناس شخصُه، ولا يغيب عن قلوب المؤمنين ذكرُه، وهذا يعني انه لا سلام بين الفضيلة والرذيلة، ولا هدنة بين الحق والباطل.
قال النبي (صلى الله عليه وآله): من أفضل الجهاد انتظار الفرج.
وقد أجاب النبي (صلى الله عليه وآله) على سؤال جابر الأنصاري عن انتفاع الناس بغيبة القائم (عليه السلام)، فقال: أي والذي بعثني بالنبوة، إنهم لينتفعون به ويستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وان جللها السحاب.
فالغيبة المهدوية هي روح الأمل بان رجلا سيظهر يوماً فينقذ البشرية من وثنيتها ويحطم الظالمين، ويملأ المعمورة قسطا وعدلا، فتعود الحرية ويرفع الحيف، وترفرف رايات الحق.
فلا يأس ولا قنوط، بل لتمتد همماً إلى زمان ظهور أمل الإنسانية (أرواحنا فداه)، فهو المحقق لأهداف الأنبياء، والمنقذ الكامل لرسالة الإسلام، وقد ادخره الله لتحقق على يده آمال جميع الأنبياء والأولياء التي حالت الموانع دون تحقيقها!
التعلیقات